الراصد : تعاني مهنة كتابة الضبط في موريتانيا بل في دول شبه المنطقة من خلل عميق جر ذيله على مدلولها المهني ومعرفة طبيعتها وادوارها، وموقعها بين الوظائف الإدارية والقضائية المعروفة، وهو ما انعكس وينعكس على مختلف السياسات والإستيراتيجيات التي تتخذها الدولة ، وتسعى لها النقابات سعيا يختلف هو الآخر باختلاف مستوى الفهم لطبيعة هذه الوظيفة، التي لايدركها أغلب موظفيها ، أحرى القائمين على القطاع الوصي، الذين لا علاقة لهم بالقطاع والطبيعة المهنية والقانونية لهياكله غالبا، فهم مسيرون إداريون قادمون على سلم التعيينات فقط.
لذلك كان التعريف بهذه المهنة يشكل راس الحربة في أي حديث يتعلق بها، حتى نفهم الدلالة الصحيحة لطبيعتها،
لكن علاج الخلل بسيط جدا حين نعرف أن سببه ليس سوى ترجمة سيئة لعبارة ( greffier) الفرنسية التي ترجمت إلى كاتب المحكمة ، وهي ترجمة فاسدة ابتعدت كثيرا عن الدلالة الصحيحة للكلمة ، فهذه العبارة greffier عرفها قاموس Larousse بأنها تعني( المأمور العدلي المكلف بالسهر على الإجراءات القانونية في سائر القضايا وعلى حفظ وتسليم نسخ الأحكام) وهذا بعيد عن مدلول عبارة كاتب التي تدل حسب المفاهيم الإدارية على الموظف المكلف بالكتابة (السكرتير) الذي ينفذ إملاءات رئيسه وتعليماته،
هذا الفرق الشاسع بين كلمة greffier وترجمتها إلى العربية هو الذي أدى إلى الخلل الذي طبع المهنة في مختلف نواحيها، الإدارية والقضائية ، وتعامل القطاع الوصي معها، وفهم العامة لدور كاتب الضبط ، الذي يطلق عليه آحيانا كاتب القاضي ، وأحيانا الكاتب ، نزوعا إلى ما كرسته الترجمة من مفاهيم مغلوطة، في حين أن المدلول الحقيقي بعيد كل البعد عن مهام الكتابة والسكرتاريا، فالمأمور العدلي وظيفة إدارية قضائية سامية ، وليست مهمة عادية كمهمة الكاتب، أيكم رآى يوما كاتبا ( سكرتير) موظفا اي ينطبق عليه قانون الوظيفة العمومية ، يتقدم في الدرجات والرتب ولديه إطار وحقوق مبوب عليها؟ ذلك هو مكان المأمور العدلي ، وكان يمكن فهم طبيعة مهنته من مجرد التفكير في هذا الموقع القانوني ، وهو من يضطلع بالجزأ الأكبر من حسن سير المرفق القضائي ، وتذليل صعوبات الإجراءات، ومن هنا سمي في بعض الأبحاث ( فني الإجراءات) كما يدخل في مهامه حفظ ملفات القضايا ، وتامين ولوج المتقاضين إلى حقوقهم، ومراقبة الآجال ، وترتيب ما يترتب عليها، وتسيير الملفات والأشخاص دون رتبته ، والموارد وغيرها.
كما أن كامة greffier تشمل الأمانة ، وهذا ما جعل بعض الدارسين ينزع ألى تسميته بأمين العدالة، بوصفه مؤتمنا على أسرار المتقاضين في ملفاتهم التي يسيرها، ولذلك نجد التشريع الفرنسي يورد عبارة مؤسسة كتابة الضبط، ومن خلال تشريعاتنا ذات المصطلحات العتيقة وردت عبارة القلم بدل مؤسسة في غيرما مادة من قوانين الإجراءات ( يمسك قلم كتابة الضبط كاتب ضبط رئيسي يساعده ...) العبارة الشهيرة في تلك النصوص الصفراء ،
ولو أن هذه النصوص شهدت تحسينات وتعديلات لكانت مثل هذه العبارات التي جاء بها حاطب ليل في الزمن الغابر أول ما تم تغييره إلى عبارات اكثر نضجا ووضوحا ودلالة.
إن هذا الخلل الذي عشش وباض وافرخ في أذهان الجميع ، حتى رأينا تظاهرات كبيرة بحجم المنتديات العامة حول العدالة تكرسه وتنطلق منه ، يجب أن نتغلب عليه ، حين نتأكد أنه لا أساس علمي له، وأن ضحاياه كثر ( موظفي المهنة، القطاع الوصي ، المتقاضين و المنظومة العدلية) ، إلا أنني أعذر الجميع فالخطأ عندما يشيع ستين عاما ربما لا جرم أن يجمع الناس على صحته، ولكن لا اجتهاد مع وجود النص ، وقاموس أصحاب العبارة greffier ( المتاح للجميع) يقول إن مدلولها ليس سكرتير ، ومن خلال تفكيكه نرى أن التأكيد على تبعية صاحبه للقاضي مخالف لروح القانون وهدفه، كما أن تمييع مهنته فساد ممنهج يتنافى مع دعوات الإصلاح والتطوير، كما أن تسليط رئيس المرفق عليه في ما يمس مركزه المهني عبث يرفضه العقل السليم ،
في خاتمة هذا التعريف الخاطف بودي لو فهم القائمون على هذه الوظيفة أنها تحتاج قليلا من الإهتمام والتقنين ووضع أمورها في سياقها الطبيعي كي يستفيد القطاع من أدوارها ، وينعكس ذلك على الجوانب الحقوقية والتنموية للبلد.