الراصد : من يعرف قديم أخبار الكلب "اسبايكي" على صفحتي، سيتذكر أنَّ أُنثى من فصيلته تُدعى "آنيتا" قَدِمت إليه طَلبًا للخلفة، لكن السَّعد لم يُزهر بينهما، فعادت إلى مُلَّاكها بِوضْعِ آنسةٍ كما جاءت،.. وكما أشرقت الآنسة في حياته..غربت بسرعة!..، ربما لأنها استعجلت أو لأنه تريَّثَ، أو ربما كان معها كمن بُعث إلى الجبهة دون تدريب.. لكن الأكيد أنه دخل بعدها في حالة فرط اكتئابٍ، فقد كان البعد مؤلما، والفقد صادحا..
يبدو "اسبايكي" متخوفا من غمز أترابه من الكلاب على فحولته المؤجلة، أو أنَّ دورًا رُسم له دون إذنٍ منهُ ولم يَكُنه.. لا يُمْكن اغفال حقيقة أنَّ شيئا فيه انكسرَ يوم تعطَّل مصعد عواطف "آنيتا" فجأة ورحلت، وأنّه كان عليه أن يأخذ طريق سُلَّم النسيان، ليصعده بخطى عَصيبة.. فقد ارتكبت في حقه ما لا يُمكن إصلاحه وهو إضافة إحراجٍ إلى جرحه.
بعد أشهُر من رحيلها، استقدَمَ صاحب البيت كلبًا من فصيلة "لابْرادورْ"، طاغي الفحولة بقوام ممشوق، ويَتيه على "اسبايكي" بقامته مرّتين، لكنه بارد الجمال كواجهة فاخرة لمبنى مهجور، كان الكلب "رَكْس" في ذمة صديق مغربي، روَّضه بالعربية "الفُصحى".. فصار يفهم: اجلس، قف، كُوولْ، باللاّتي.
أخذ "اسبايكي" مسافة من الوافد الجديد، يتخاطف وإيّاه النّظر احتقارا، وإنْ جامَله فبمزاحٍ مُتخاشِنٍ بالمخالب والأنياب، كما امتنع عن مشاركته الأكل، أو مُشاطرته الانفعال وهلوسة النباح.. "اسبايكي" كلب زينة باديَ الوسامة، أنيق الفرو، ومستعد منذ الولادة لأنْ يُصبح ودودًا ولطيفا،.. كما يملك إدراكا متقدما بأنَّ المُنصِت يَحصد الوقار.. ولذا يُحسن التَّدثر بالصّمت.. صَمتٌ يُدجِّن الوقت.. وكمْ أزال الوقت البليد ما رَان على القلب!.
لا يملك "اسبايكي" خيَّارات كثيرة في الحياة، فهو اليوم عاطلٌ عن العمل والأمل والحُب، فلا هو كلب صيد ماهر، ولا كلب حراسة شجاع، ولا كلب بوليس برتبة شريفة.. هو مجرد كلب زينة، بحجم حذاء شتاء، هجرته حبيبته وعرَّضته لشحنة تحريض وتشكيك مطلق الحرج!.
يتمدد "اسبايكي" بملل تحت الظل، تَستخفّه أحلام مستقبل الشباب في مجتمع شهوة المال!.. فكّر وقدّر،.. ماذا لو مَال للعمل الخيري؟.. لكن الكلاب لا تُحْسِن تمثيل أدوار الطّهر والورع الكاذب، فذلك من اختصاص البشر.
ماذا عن الهجرة إذن؟ .. هل تُساعده بُنْيته القزميّة في التّسلق؟، هل تَطمعُ وَضاعَته المالية في استخراج جَوازات سفر ماسيّة، وفي ضمانات القروض المصرفية،...طبعًا لا!.. فيتضخم لديه بثبات الشعور العميق بالفشل.. رغم ذلك يُدرك "اسبايكي" أنه يَحوز نقاط قوة طاغية، ستفيد ملفّه انْ هو ارتَحل بمُعجزة غرب الأطلسي، ومنها عجزه عن ارضاء أنوثة "آنيتا"، وتنمّر البشر على شكله المؤنث، وتقبله للتعايش في ملاذ سلام قُزحي مع الكلب "ركس"، وسيُطعِّم ملفه الحقوقي باختلاق معاملة تمييز ضد لونه الفضي، وبأنه نتاج علاقة مُتعة مرفوضة بين كلبة بيضاء وكلب أسود، وبأنه.. وبأنه مُنع حبيبته بحجة انعدام الكفاءة أو دونية الفصيلة.
ذابت أشهر أخرى دون أن تُيسّر فكَّ رموز اكتئابه، لكن المدلل بدَا أكثر استيعابا لوضع فشله، وأكثر استعدادًا لقبول ذاته فيه، وصار يبحث عن أيّ دور مُربح يَجمع فيه أشلاء نفسه،.. فماذا لو استثمر لصالحه مثلاً صحبة الإكراه مع الكلب "رَكْس"، وحوَّلها إلى علاقة انجذاب؟.. فعليه أن يغتنم الحظَّ ولوْ من سُوء الحظ!.. أن يكون محظيًّا في علاقةٍ عكسَ الاتجاه مع كلبٍ ذكر، بعد أن فشل بداهة في بسط ذكورته على كلبة أنثى .. خصوصًا أنَّ شكله يَصلح طُعْما لاجتذاب اعجاب طلاَّب التسلية من ذوات الأربع،.. فالحل المُريح هذه الأيام لمثله هو أنْ يأتي الحياة شَهوة كل مَساء..
تخَّيل "اسبايْكي" نفسه يتغضَّن، ويُرخي أطرافه تليُّنًا، ويتنازل طواعية عمَّا قد مَضى من ماضيه بصيغة التذكير...ثم ابتسم!. بل ضحك!. فالدّور لا يخلو من تكلفة، لكن لا يَهم!.. المهم أنْ يتبرَّع له الحظ ببعض الحظ،.. فحتَّى شباب البَشر صارَ بهِ مِنْ لينِ العواطف ما يُجزي لتَأنيث الثّيران، يَبتلع الشباب دقيق نفايات البروتينات والهرمونات، ويتمرَّن بقساوة على الآلات لينمِّي عضلاتٍ للزّينة!،..عضلات لن تصلح لأكثر من عرضها في قميص نِصف كُم، وإخراجها مساء من نافذة سيّارة لصيد الإناث، وصار الشاب يبكي ليلة زفافه كنواعم الخدور، ويستعرض صوَره مُفلترة بوجنة وردية وشفاه حمراء وشعر مُملَّس، وذقن مزيف، مرسوم بالحبر الأسود.. فالمظهر أدْنَى إلى الارخاء والارتخاء.
بسط "اسبايكي" أمامه فُرص استثمار الوضعية الجديدة، وما يُحتمل أن توفر له من امتيازات في العالم السُّفلي، فكان أنجعها أن يصبح من صُنَّاع الجَو، أن يكونَ مثلاً، مُنغِّم إيقاع في حفلة نُباح ساطعة البَهاء، أو جامع اكراميَّات في حفلاتِ كلبةٍ عزيزة المقام، أو ممجِّدًا بالصُّراخ أعيان الكلاب، فكل صيحة على وجيه مُستكلب بثمن معلوم، أو أنْ يُصبح دليلاً ليليًّا لكريمات سيّدات مُجتمع الكلاب، أو دلاَّلَ مُتعة لجرائها النّاضجة،.. وسيُتقن الرقص بالذيل واللعب بالقيل والقال في وسائط الاتصال ..
وبهذا، سيوفر "اسبايكي" في ليلة واحدة، الدخل السنوي لمنحوسِ دكاترة، وراتب سنتين لكتيبة بؤساء من المعلِّمين، وعلاوات الخطر بقية العمر لمفرزة مُجدبة من الممرّضين.. تخيَّلَ المدلَّلُ أوراق المال والسّيارات العابرات والفلل تتطاير فوق رأسه دون عَرقٍ معلوم.. تَخيّلَ فهنا لا حدود للخيال.. لقد ارتاح قلبه لهذا العالم النَّاعم المُنعَّم ولم يستأنف ضميره.. ففي عالم اللامنطق ينبت المال في الجيوب بالكرامات ولذا لا ضرائب ولا مُساءلات.. إنه آخر معاقل المال ، وآخر مظان السيولة السهلة.. ولا سلطة لشركة المياه على تدفقه.
ومادامت حُمَّى المال تستبد بالكل، فلا يُسيئُ "اسْبايكي" أن يُمنح امتيازا آمنا لتبييض وجه طالعه بأيِّ مال، حتى ولو كان مالاً مُلتبس الغموضِ لفرطِ غَرابة أصله، أو ظاهر الإعجاز لفرط غرابة وَفْرته!،.. المهم أن يتريَّش والسَّلام.. "اسبايكي" ليس غبيا، ويَعي أنَّه في نَعْماء المال المُبهم لا تُشترط النّظافة، فالمال يَغتَسل ويُغسل دون ماء، ولا يجف!.. أينَ الماء؟ ..
سيقود الجَشَع "اسبايكي" إلى توسيع حقل أعماله ليشمل القطط،.. فتوريد المتعة لتموين اشتهاءات شهوات القطط السّمان سيكون ربحا موازيا..
رحلت آنيتا،.. وقَطعت كل اتصال برفيقها السابق، وما عادت من صُوَر ترشح عن ذكرى فتنتها المُشتهاة غير شتات أخيلة بهيَّة، تَتَخايلُ وتنحسر لتزيده حنينا لأيامهما غير المُخلّدة.. وكيف يُخلّد المسقوم أفضالها على قلبه كتابة أو شعرا؟،.. إذْ لا تنبغي كتابة العواطف بالمَخالب، وأمَّا الشِّعر فمُستأثرٌ به في الأرضِ المُعتمة لبَني نَبْحان!، وعَولمة القوافي على الهويَّة مأثمٌ باءَت به نَعرات بني هَذَيان التي تُغلِّبُ شِعرَ الإرْث على شِعر الشُّعور..
لم يألُ "اسبايكي" مشقةً في اتقان دوره الجديد، وأوْعزَ إليه غُروره أنَّ "آنيتا" لو رأته الآنَ لتحسّرت على هَجره، فإنْ كان هُزِم معها، فقد فاز في معركة الحياة بمعيار علية قَوم اليوم.
تحياتي.