"**السوننكيون أحد مكونات الشعب الموريتاني، مثل الفلان والولوف والبيظان والحراطين… ويمتلك الشعب السوننكي سردياته الخاصة حول أصوله، مثل بقية مكونات الشعب الموريتاني.**"
احتضنت العاصمة الموريتانية نواكشوط ما بين 22 و26 شباط/ فبراير هذا العام، المهرجان السوننكي الدولي، الذي ينظمه السوننكيون بشكل دوري في دول وجودهم منذ عام 2011. هذه المرة الثانية التي تستضيفه فيها موريتانيا منذ عام 2014، وشاركت فيه وفود من دول عدة، وتضمن مجموعة من النشاطات الفنية والثقافية والعلمية حول ثقافة الشعب السوننكي وتاريخه، بالإضافة الى معرض للمنتجات التقليدية والأطعمة التي يُعرف بها هذا الشعب.
تحدث الباحث والصحافي كيسما جكانا لـ”درج”، عن المهرجان والسوننكيين، مشيراً إلى أنهم موجودون في موريتانيا والسنغال ومالي وغنيا بيساو وغامبيا، إلى جانب جاليات كبيرة في المهجر، ويبلغ عددهم 6 ملايين نسمة، وفي موريتانيا يعيش الشعب السوننكي في الحوضين الشرقي والغربي والعصابة وكوركول وغيديماغا، وفي المدن الأخرى لهم وجودهم كموظفين أو فاعلين اقتصاديين.
يُقام المهرجان بهدف حفظ اللغة السوننكية، فأفراد هذا المكون الديموغرافي من المهاجرين، وتكبر الأجيال الجديدة في بيئات لا تحوي وجوداً ثقافياً سوننكياً (مثل أوروبا)، ما يهدد هوية هذا المكون، لذا أُسست مجموعة من النخب الثقافية الجمعية السوننكيّة، وأطلقوا بعد ذلك مهرجان دولياً، حمل في هذه النسخة شعار “نتحدث لغتنا ونكتبها حتى لا نضيع”.
“يَعتبرُ الشعب السوننكي نفسه أحفاد مؤسّسي إمبراطورية غانا، ويعود أصلهم الى من يسمونه الجد دينكا الذي يُعتبر من أكبر الجنود في عهد الفراعنة”.
*“"يَعتبرُ الشعب السوننكي نفسه أحفاد مؤسّسي إمبراطورية غانا، ويعود أصلهم الى من يسمونه الجد دينكا الذي يُعتبر من أكبر الجنود في عهد الفراعنة”"*.
أصل الشعب السوننكي
السوننكيون أحد مكونات الشعب الموريتاني، مثل الفلان والولوف والبيظان والحراطين. السوننكية لغتهم وإحدى اللغات الوطنية المعترف بها في المادة السادسة من الدستور الموريتاني. لهم وجودهم منذ القدم في موريتانيا وجوارها، ويشير الدكتور الناني ولد الحسين في كتابه “صحراء الملثمين وعلاقاتها بشمال وغرب إفريقيا” إليهم في ما مفاده: “هم من أكبر مكونات المجموعة الكبيرة التي كان يتشكل منها سكان السودان الغربي، لعبوا أدواراً اقتصادية وسياسية خطيرة في المنطقة، إلى جانب كونهم مؤسسي إمبراطورية غانا”.
يمتلك الشعب السوننكي سردياته الخاصة حول أصوله، مثل بقية مكونات الشعب الموريتاني المتنوع. يقول عن ذلك كيسما جكانا: “يَعتبرُ الشعب السوننكي نفسه أحفاد مؤسّسي إمبراطورية غانا، ويعود أصلهم الى من يسمونه الجد دينكا (Dinga l’ancêtre) الذي يُعتبر من أكبر الجنود في عهد الفراعنة، لذلك يعتقد السوننكيون أن أسلافهم قدموا من مصر العتيقة”.
تقول زينب أدجاني، عضوة اللجنة الإعلامية للمهرجان السوننكي الدولي في حديث مع “درج”: “ترجع أصول الشعب السوننكي إلى مصر، حيث كانوا هناك أيام الفراعنة، قطنوا حينها في أسوان، وبعد ذلك انتقلوا إلى غرب إفريقيا، وفي البداية توطنوا في مكان يسمى واغادو، وهي التي نقول عنها مملكة غانا”.
لم تحفظ لنا الذاكرة عن مملكة غانا الكثير، وإن كانت التقاليد والحكايات المروية لقبائل السوننكي تختزن الكثير من الحكايات، لكن اللافت أن أول ذكر لهذه المملكة عند العرب كان على لسان الفزاري الفلـكي، الذي تطرق قبيل عام 800 م إلى مجموعة من البلاد الإفريقية، من ضمنها إقليم غانا. أشار إليها لاحقاً الخوارزمي الجغرافي نحو عام 833م، إذ حدد غانا في خريطته التي نقلها عن بطليموس. كما وصف اليعقوبي الجغرافي، ملك غانا سنة 872م بـأنه “ملك عظيم”، وقدم أبو عبيد الله البكري (1067م) تفاصيل مهمة عن المملكة قائلاً: “وغانا سمة لملوكهم واسم البلد أوكار”.
تساءل الاستعمار الفرنسي عن مكان مملكة غانا، وإلى الآن يوجد قبر إداري فرنسي في مدينة “ولاته”، عاش هناك وسأل سكان المنطقة عن مكان مملكة غانا، فذكروا له مدينة كمبي صالح، فاستكشف المكان، وكتب عنه مقالاً، واكتشف آثار مسجد كمبي صالح، الذي يعتبره المؤرخون أقدم مساجد المنطقة.
عمل كثر من الدارسين الأفارقة في سبيل تحديد موقع كمبي صالح، بوصفها مملكة غانا التي بسطت نفوذها على بلدان عدة في غرب إفريقيا، وحسموا الأمر اعتماداً على المرويات الشفهية السوننكية. وبالتوازي مع ذلك، اشتغل المؤرخون على إشارات في المصادر العربية، والحفريات الأثرية التي حدثت في الموقع، واستخلصوا أن موقع كمبي صالح هو مكان المستوطنة التجارية.
يشير البكري في “المسالك والممالك”، إلى أن المدينة الأميرية السودانية، كانت على بعد ستة أميال من المستوطنة التجارية التي نزل فيها التجار المسلمون، أما المدينة الأميرية فلم تستطع الأبحاث الأركيولوجية إيجادها، ولكن تم اكتشاف المستوطنة التجارية لكمبي صالح.
يُذكرُ أيضاً أن المدينة كانت في مرحلة من مراحلها تحوي شطراً إسلامياً للتجار، وشطراً أميرياً وثنياً، هو شطر المدينة الأميرية القديمة، ما يعني أن مدينة كومبي صالح، العاصمة المفترضة لمملكة غانا اليوم، تقع في ولاية الحوض الشرقي بموريتانيا.
تنظيم وحكم قبل “الدولة”
يمتلك الشعب السوننكي عاداته وتقاليده وأنماط تنظيمه الاجتماعي، فمثلاً، عند السوننكي ما يسمى الجنكرَ، الذي يلعب دور البرلمان في المجتمع السوننكي التقليدي. هو مكان الاجتماع العام الذي يحضره كل حكماء البلدة أو القرية، ويترأس الاجتماع عادةً رئيس القرية أو من ينوبه، وفيه يتداولون الأمور العامة، كما يخص القرية أو علاقاتها بجوارها، وفيه يتم التصالح وفض النزاعات وسن القوانين وإقرارها، وفرض تطبيقها، وإرغام من يخرقون تلك القوانين على الانصياع لما ينبثق من ذلك الاجتماع، وهو أمر واجب عليهم.
تراجع دور الجنكر، السلطة التشريعية في المجتمع السوننكي، مع ظهور الدولة الوطنية، وحضور السلطات في المدن والمؤسسات التنظيميّة كالبلديات، وانتشار الترافع في المحاكم الرسمية، ليتحول الجنكر إلى تقليد قبلي دوره محدود.
تحضرُ في المجتمع السوننكي ثقافة تعدد الزوجات، وهناك ما يسمى “التسمية”، وهو أن يقال إن هذه البنت من يوم العقيقة (اليوم السابع للولادة) سميناها لفلان، أي ستكون زوجة فلان وكأنه عقد عرفي. تغيرت هذه التقاليد حالياً، وتوجهت نحو التلاشي، وحسب كيسما جكانا: “مثل كل الشعوب، المجتمع السوننكي يعتز بتراثه الذي يعبر عنه في مناسبات عدة، فللزواج وعمليات ختان البنين حفلات خاصة وأغان ورقصات، وبطبيعة الحال يمارسون عادات مثل عادات المجتمعات الأخرى. وجدير بالذكر أن المجتمع السوننكي مسلم بنسبة مئة في المئة، بعكس معظم المجتمعات المجاورة له”.
يضيف جكانا قائلاً: “يُلاحظ أن السوننك حالياً، يفضلون الهجرة بحثاً عن العلم والمال، لكن ذلك لا يعني غياب الطبقية المجتمعية المرسخة، صحيح أن هناك تغيرات خجولة نتيجة تطور الزمن، ولكنها واضحة”، وخلص جانكا إلى أن “المجتمع السوننكي يساهم أكثر في المجال الاقتصادي، إذ إن المهاجرين هم الذين يُدخلون العملة الأجنبية إلى موريتانيا، ومشاركون في تمويل القطاع العقاري على سبيل المثال”.
مانسا موسى: أغنى أغنياء التاريخ
يمتلك السوننكي تاريخاً حافلاً في مناطق وجوده، وله حكاياته الخاصة وشخصياته الراسخة في وجدانه، التي يتداول قصصها بفخر وانتشاء، يقول كيسما جكانا عن ذلك: “الالتفات إلى حكايات التراث التقليدي، يكشف عن وجود أبطال، سواء كانوا من حملة الأسلحة أو المعرفة، ومن المعروف أن إمبراطور غانا كان يسمى كايا ماغا “Kaya Maghan”، بمعنى (الذي بحوزته الذهب)، ومن بين الشخصيات التاريخية المعروفة بأصلها السوننكي، مانسا موسى، الذي حجّ في القرن الرابع عشر إلى مكة بصحبة عدد كبير من القوافل المشحونة بالذهب”.
يحدثنا جكانا أيضاً عن الملك المالي، الذي عُدَ أغنى رجل في تاريخ البشرية، فبحسب قائمة “أغنى 25 شخصاً عبر التاريخ”، المعدة والمنشورة من طرف موقع “Celebrity Net Worth website”، يعتبر الملك المسلم مانسا موسى الأول، ملك مالي، المولود عام 1280م والمتوفى عام 1337 م، أغنى أغنياء البشرية على مر العصور، إذ بلغت ثروته ما يعادل 400 مليار دولار أميركي بعملة اليوم.
تشير بعض المصادر التاريخية، الى أن رحلة مانسا موسى الاستكشافية وحجّه تسببا بخسائر كبيرة، إذ ذكرت شركة “سمارت آسيست” في الولايات المتحدة، أنه نتيجة لانخفاض قيمة الذهب، أدت رحلة موسى إلى خسائر اقتصادية تقدّر بنحو 1.5 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط.
تذكر المصادر أن 60 ألف شخص رافقوا الملك الأسطوري في رحلته، وأنه وزَّع أطناناً من الذهب على المناطق التي مر بها، منها القاهرة ومكة.
حكاية منسا موسى هذه وما رافقها من الأساطير والحكايات، وضعت مالي على خريطة العالم، وجعلتها مكاناً يرنو المستكشفون إلى سبر أسراره، وحسب المصادر التي تتحدث عن الملك منسا، فقد بنى بعد رجوعه إلى وطنه، ومدينة الأشهر تمبكتو، الجامعات والمكتبات الضخمة، ليغني بلاده علمياً، جالباً معه كل من يعينه على ذلك.