الراصد : يشغل موضوع الطاقة في الجزائر حيزاً واسعاً من الاهتمامات الرسمية والشعبية والأكاديمية منذ الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا، وانحصر الأمر بين التهديد والافتخار تارة، والتأسيس لصناعة طاقة قوية تارة أخرى، ما يكشف عن توجهات جديدة تستعد الجزائر لاعتمادها مستقبلاً.
ووقّع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مرسوماً رئاسياً يتضمن إنشاء المجلس الأعلى للطاقة، الذي يستهدف تحديد التوجهات في مجال الطاقة، بحيث يرأسه رئيس الجمهورية، ويتولّى أمانته وزير الطاقة، ويتكون من الوزير الأول أو رئيس الحكومة، بحسب الحالة، ووزير الدفاع أو ممثله، ووزراء الخارجية والداخلية والمالية والانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة والبحث العلمي.
مهمات استراتيجية
وتُعنى الهيئة التي تظهر أهميتها من خلال أعضائها وأهدافها، بتحديد الاستراتيجيات الواجب اتباعها في ما يتعلق بأمن الطاقة للبلاد، والمحافظة على الاحتياطات من المحروقات وتجديدها وتطويرها، إضافة إلى متابعة وتقييم تنفيذ المخططات ذات المدى البعيد، لتطوير الهياكل القاعدية لإنتاج الطاقة وتخزينها وتوزيعها، واستحداث الطاقات المتجددة وتطويرها مع ضمان موارد المناجم اللازمة لتنميتها.
ومن بين مهمات المجلس، تحقيق نموذج جديد لإنتاج واستهلاك الطاقة، يتماشى بحسب الموارد، وكذلك متابعة الالتزامات الخارجية والأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، وأيضاً ضبط السوق الجزائرية للطاقة، ومتابعة تأثير الوضع المحلي والدولي في الجزائر وتثمين موارد الطاقة وتحديد البعد المرتبط بالبيئة وتغيّر المناخ وبناء التحالفات الاستراتيجية والشراكات الدولية.
"تأديب إسبانيا"
وتزامن تأسيس المجلس الأعلى للطاقة مع إعلان الشركة البترولية الحكومية "سوناطراك" أنها لا تستبعد مراجعة أسعار الغاز المصدر إلى إسبانيا، وصرّح المدير العام للشركة توفيق حكار أنه "منذ بداية الأزمة في أوكرانيا، انفجرت أسعار الغاز والبترول، وقررت الجزائر الإبقاء على الأسعار التعاقدية الملائمة نسبياً مع جميع زبائنها"، غير أنه "لا يستبعد إجراء عملية مراجعة حساب للأسعار مع زبوننا الإسباني".
وبالعودة إلى التصريح، فإن أطراف عدة فسرت الخطوة بضغط جزائري على مدريد من أجل دفعها إلى التراجع عن موقفها "المفاجئ" إزاء قضية الصحراء الغربية، بعدما أعلن رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز أن الحكم الذاتي المقترح من المغرب هو الحل المقبول لطيّ الملف الصحراوي، ما أغضب الجزائر، التي استدعت سفيرها لدى مدريد.
كما ربطت جهات التصريح بعزم الجزائر "تأديب" مدريد، إلى جانب إجراءات أخرى منتظرة في الأيام المقبلة، بعد أن زادت الهوة بين البلدين، واشتد التوتر الدبلوماسي بينهما إلى نقطة "لا رجوع"، على إثر تحضير سانشيز لزيارة رفيعة إلى المغرب.
موقف الاتحاد الأوروبي
لكن الأنظار توجهت مباشرة إلى أوروبا، تترقب رد فعل دولها، التي تنتظر انفراجاً "غازياً" من الجزائر مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وما يتبعها من إجراءات عقابية متبادلة، إذ من المنتظر أن يدخل خط الجزائر- الاتحاد الأوروبي مرحلة سخونة قد تخلق وضعاً جديداً، على اعتبار أنه يرى في خطوة الجزائر ضغطاً على أحد أعضائه وعليه أيضاً، وهو بحاجة ماسة لتعويض الغاز الروسي، أو على الأقل تجاوز التهاب أسعاره، وكذلك المخاوف من توقف التزويد في ظل التهديد الروسي، وهو ما يطرح التساؤل حول استعداد الجزائر لمواجهة نتائج الخطوة
وفي السياق ذاته، شرع الاتحاد الأوروبي بدراسة خطة تتمثل في التنسيق بين أعضائه في ما يتعلق بمشتريات الغاز، أي أن بروكسل هي من تتفاوض مع الدول المصدرة للطاقة باسم الدول الـ27 المشكّلة للاتحاد، بهدف تعزيز أمن الطاقة في القارة الأوروبية، وتقليل اعتمادها على المحروقات الآتية من روسيا، إذ يتعين على قادة الدول الأعضاء التعهد بالعمل معاً في عمليات شراء مشتركة للغاز والهيدروجين، وفق ما جاء في جدول أعمال القمة.
تعويض الغاز الروسي
ولم تتوانَ الجزائر في الرد على "أماني" أوروبا، وعبر المدير العام لشركة "سوناطراك" توفيق حكار، عن رفض بلاده أن يكون غازها بديلاً للغاز الروسي، وصرّح حكار أن بلاده لديها مليارات مكعبة إضافية من الغاز، لكنها لا يمكن أن تعوّض الغاز الروسي، وربط زيادة الإنتاج الجزائري برفع وتيرة الاستكشافات، وأشار إلى أن الشركة حققت ثلاثة اكتشافات نفطية جديدة في الربع الأول من العام الحالي، وقال إن "سوناطراك" تعتزم استثمار 40 مليار دولار خلال الفترة من 2022 إلى 2026، في مجالات الاستكشاف والتنقيب والإنتاج.
التموقع مع الكبار
إلى ذلك، رأى الباحث في الشؤون السياسية والأمنية عمار سيغة أن الإعلان عن إنشاء المجلس الأعلى للطاقة يأتي في ظروف استثنائية عالمياً، "على الرغم من أننا كمراقبين كنا ننتظر أن يكون هذا المجلس سابقاً"، فالتوقيت الذي جاء فيه حساس بالنظر إلى التحديات، التي تواجهها قضية الطاقة داخلياً وخارجياً، لا سيما أن البنية التحتية والقدرات الإنتاجية للجزائر لا تزال بعيدة من الطموحات والسقف المناسب لتحقيق دور ريادي، وقال إن الارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة، وكذلك تداعيات الحرب في أوكرانيا على علاقات روسيا بشأن الطاقة مع أوروبا وأميركا، جعل الأضواء تسلّط على بدائل روسيا، ولعل الجزائر من أهم البدائل الأوروبية في الوقت الراهن.
أضاف سيغة أن تشكيلة المجلس الأعلى للطاقة تعطي قراءات بأن له دوراً استراتيجياً وأمنياً بامتياز، لكن يبقى الوقت كافياً لإبراز الأهمية والنتائج، التي يمكن أن يحققها المجلس، الذي "نأمل في أن يراجع سياسة الطاقة في الجزائر، ويفعّل دورها التاريخي كلاعب أساسي في المنظمات الدولية للطاقة ومواجهة الضغوط الدولية المتزايدة"، وأشار إلى أن الجزائر تتعامل بحذر مع محاولات جرّها لتعويض الغاز الروسي، نظراً إلى حساسية العلاقات الثنائية، وكذلك حرص البلاد على التموقع في خريطة العالم الجديدة، التي بلورتها الأحداث المتسارعة.