الراصد:....أولا الهوية:
يقول محمود درويش (لا أخجل من هويتي ، فهي مازالت قيد التأليف ، ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون) ، ويقول العالم والمحلل النفسي ومكتشف مفهوم أزمة الهوية إريك إريكسون ( في الغابة الاجتماعية للوجود البشري لا يوجد شعور بأنك على قيد الحياة بدون الشعور بالهوية).
وإذا كانت الهوية في بعض تعريفاتها هي مجموع الخصائص والسمات الاجتماعية والثقافية التي يتقاسمها أفراد شعب ما ، وبواسطتها نستطيع أن نميز بين شعب وآخر فإن موريتانيا ليست نشازا ، ولا يضير هنا التداخل العرقي ، واختلاف الثقافات .
إن كبريات الدول العظيمة اليوم وصغرياتها حتى، ومنهم دول رائدة في الديمقراطية والتنمية جلهم متاحف أعراق وسلالات وألوان فهل يعني ذلك أن يكونوا بلا هوية؟
مع الأسف ربما نكون الدولة الوحيدة في العالم التي لم تحسم هويتها بعد بسبب التجاذبات وتردد وضعف النخبة السياسية والحكام .
إننا كشعب متجانس ومنسجم إلى حد كبير رغم الخصوصيات نمتلك وحدة المعتقد وروابط ضاربة في جذور التاريخ السحيق ، فضلا عن الوشائج والعواطف الإيجابية التي نتجت عن انتمائنا لذات الحيز الجغرافي وتداخل أواصر الأرحام ، وتقاسم الأفراح والأتراح على مدى قرون من تاريخنا الممتد ، وعقود من عمر الدولة الوطنية الحديثة.
إن رفض إعطاء هوية محسومة لبلدنا وتركه كهمزة الوصل أو كإبرة الميزان تميل ذات اليمين وذات الشمال حسب اضطراب أو توازن المؤثرات الخارجية أمر لا يستقيم.
إننا نريد للموريتانيين هوية منسجمة مع معطيات الفكر القانوني والسياسي ؛ هوية تستند إلى المواطنة الحقة باعتبارها معيارا جوهريا لتحقيق المساواة ، وتقوم على أساس رافعات الهوية المتعارف عليها بين أمم الدنيا كلها .
إن العالم اليوم نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية، بل والوجودية يعود حثيثا إلى البحث عن الهوية الأصلية خاصة أولئك الذين أضاعوها بسبب الاستعمار القديم الحديث ، وصخب تيار العولمة الجارف ، وضجيج ماكينات غسيل الإعلام الليبرالي.
إن هويتنا التي نحلم بها هي الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتسبون لهذا الوطن ، هي خصوصياتنا المشتركة عن الغير كمجموعات متعايشة إن صح هذا التعبير.
إن عروبة موريتانيا الحضارية، والتي مازال أغلب ساستنا خجلا من أن يصدح بها، تجد أساسها المكين في اللغة والدين والتاريخ وحتى الجغرافيا.
لقد سارت اللغة العربية جنبا إلى جنب مع الدين الإسلامي في القارة الإفريقية وخاصة غرب إفريقيا كلغة حضارة ودين وشعائر ، وتم الاقبال عليها خاصة من طرف من يرغبون بالتعمق في الدين ، وكان سفراؤها ليس الفاتحون فحسب بل التجار والمتصوفة لدرجة أنها استخدمت كلغة تواصل مشترك بين مختلف القوميات قبل أن تعرف المنطقة أي انتشار للغات الأوربية.
إن من يريدون لنا من أشقائنا ظلما التمسك باللغة الفرنسية والهوية الفرانكفونية نذكرهم أن أجدادهم كانوا أكثر إلماما وتعصبا للغة العربية في الغالب من العرب أنفسهم ، ولهجاتهم كانت تكتب بالحرف العربي حتى الأمس القريب ؛ أي حتى تاريخ قدوم المستعمر الأوربي الغاصب.
هل يمكننا أن نذكر هؤلاء بتماهي القادة والعلماء آنئذ مع الحضارة الاسلامية لدرجة أن شيخا جليلا ومجاهدا وصوفيا هو الشيخ عمر الفوتي سلطان الدولة التيجانية بغرب إفريقيا كان في جهاده وفتوحاته يسمي المعارك التي يخوضها بنفسه على رأس جيشه غزوات ، والتي يكل أمر قيادتها إلى قادته وأتباعه سرايا تيمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ .
ترى ما هي لغة هذا الشيخ المجاهد؟
إذا كنتم تظنونها لهجة أو لغة إفريقية ، أو لغة أوربية أو أي لغة أخرى من لغات الدنيا غير اللغة العربية فأنتم مخطئون.
إن فوبيا العروبة التي استشرت بين بعض مكونات مجتمعنا من مخلفات الاستعمار ومكره ودسائسه ، ثم إن مختلف الاثنيات في موريتانيا لا يمكن أن تخشى ظلما ولا تهميشا ولا أن تبتلع فليست العروبة بعبعا ، بل إنها هوية أمة مستنيرة صهرت كل الشعوب وأزالت كل التناقضات ومحت كل الرواسب بإشعاع حضاري يغرف من معين الدين الإسلامي الحنيف ، وحسبنا أن نعلم أنه حتى العروبة في جوهرها منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسان وثقافة وليست عرقا ولا لونا معاذ الله .
يقول ابن خلدون (إن غلبة اللغة بغلبة أهلها وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم) لذا تعود اللغة العربية اليوم لتأخذ مكانتها تدريجيا بين لغات الأمم بعد السبات الذي دخلت فيه الأمة منذ سقوط الخلافة العباسية ، وأعتقد جازما أن مستقبلا كبيرا للعرب والمسلمين في طور التشكل.
إن اللغة العربية لغة القرآن تشكل عندنا مع الدين الإسلامي أقوى مكونات الهوية العربية ، و ما تسمى مجازا لغاتنا الوطنية ؛ البولارية و السونونكية و الولفية مع احترامنا الشديد لها لا تقوم مقام اللغات الحية ، إنها لهجات لا يمكن أن تعتمد في التعليم والبحث والإدارة ، إن غاية ما يمكن أن تصل إليه أن تكون جزء مهما من ثقافتنا المحلية تستحق التطوير والتقدير ، ولكنها لن تكون لغات حية مطلقا .
أما اللغة الفرنسية فهي بالنسبة لي خارج مجال النقاش إنها لغة المستعمر، ولا تربطنا بها إلا عقود يسيرة من الاستعمارين المباشر ووريثه غير المباشر لذا علينا أن نبقيها لغة إثراء وتواصل، ونتخلص من اعتمادنا عليها تدريجيا حتى لصالح لغات أقوى حتى نتحرر منها كليا، فاستمرارنا على حالنا الراهن خضوع للاستعمار من جديد، يقول الكاتب والقاضي السوري علي الطنطاوي (الاستعمار العسكري انتهى، ولكن ابتلينا باستعمار شر منه هو الاستعمار الفكري والاجتماعي) .
إننا لنؤكد مع كل ما سبق أنه لا يمكننا أن نهرب أو نتهرب من إفريقيا التي لا ينبغي اختزال علاقتنا معها في الارتباط الجغرافي فحسب، ولا التأثر والتأثير والمصالح والأدوار المتبادلة والمسؤوليات المشتركة في إطار الاتحاد الإفريقي وغيره من المؤسسات والهياكل المشتركة.
إن حركة التاريخ بتجاذباتها وتذبذباتها كانت دائما وستظل تدفعنا باتجاه الأفارقة غصبا عنا، سعيا للتكامل وإحساسا بالجيرة والأخوة، ولحسن حظنا أن القارة السمراء تعترف بمختلف ثقافاتها ، وتسعى لتعزيزها وتطويرها عن طريق تعزيز سبل التواصل الثقافي بين مجتمعاتها المختلفة .
وبالمحصلة فإننا نعول كثيرا على هذا الحوار وتحديدا بخصوص مسألة الهوية "حسم مسألة اللغة العربية تحديدا"، أرجو أن لا يخذلنا ساستنا هذه المرة.
يتواصل ...
محمد محمود إسلم عبد الله