الراصد: ليس بالأمر الهين أن نكتب للساسة وقادة الرأي المتشاورين أو المتحاورين تنويرا وتنبيها ، ولكن الأصعب أن نرسم لهم الخطوط الحمراء والزرقاء ، ونتفنن في وضع حدود ملامح الغايات والأهداف المتوخاة من التشاور .
إن ذلك عدا عن عدم جدوائيته يسمو فوق أفق مداركنا المحدودة ، ولن يفيد في شيء أبدا ، مع أخذنا في الاعتبار سنهم وقاماتهم السياسية ، فالعمر يكسب الخبرة ويكسب العقل الحكمة كما يقال.
إن السقف الأعلى لغاية مبتغانا أن نساهم في إنارة الدروب ، وأن نحاول أن نلقي قليلا من الضوء على بعض القضايا الملحة ـ وليست بالضرورة تلك التي تعتمر في أفئدة البعض ويضعونها في أعلى سلم أجنداتهم ـ بل هي قضايا وجودية للبلد ومصيره وكينونته وصيرورته ، مع تجنب الدخول في التفاصيل الدقيقة والأمور الثانوية التي طالما قاد الغوص فيها إلى المنزلقات والمطبات .
كل هذا إن كان المجتمعون قد حددوا أهدافهم بواقعية دون غلو أو مراهقة سياسية ، ويطمحون جميعهم في الوصول حقا إلى نتائج ذات أهمية ومصداقية ، لا أن يضيعوا وقتهم في ملهاة للشعب ، و كرنفال هزلي لمحاولة تسجيل نقاط سياسية في الوقت بدل الضائع تضر أكثر مما تنفع ، آخذين في الاعتبار مقولة السياسي الحكيم المهاتما غاندي (يكمن المجد في محاولة الشخص الوصول إلى هدف وليس عند الوصول إليه) ومسترشدين بمقولة الفيلسوف الحكيم هو الآخر إن لم يكن أبو الحكمة في الصين لاوتسو (من لا يعرف الهدف لن يجد الطريق) .
إننا نتوق حقا ليؤتي هذا التشاورر ثماره وأكله ، ثم إن تداعي مختلف ألوان الطيف السياسي إلى مائدة الحوار دون سقف أو محظورات يجعلنا نشعر بشيء من الزهو سيكون أشبه بالفيض إن قيض لهذا التشاور أن يقدم حلولا ناجعة لبعض الإشكالات العالقة على صعد مختلفة ومنذ أمد بعيد.
إن الشك أساس الحكمة كما يقول العالم والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت لذا لن ينسينا كل ما سبق أن توقيت هذا التشاور مريب قليلا ، فقد جاء في وقت انصرم فيه أكثر من نصف مأمورية الرئيس ، وكنا ننتظر فيه قطف ثمرة التعديلات الوزارية ، وخاصة الأخير منها الذي جاء بعد ما يبدو أنها صحوة ضمير متأخرة قليلا من النظام الحاكم ، وبعد مكاشفة مؤلمة إن لم نقل صادمة للمتلقي .
لا ننسى هنا أيضا أن الكثير والكثير من خيبات الأمل المتلاحقة كحبات مسبحة انقطع فجأة خيطها الناظم تجرعها المواطن الموريتاني المسكين المغلوب على أمره بصبر أيوب في الآونة الأخيرة ، وحتى التعديل الأخير في حد ذاته كان إحدى هذه الخيبات .
لا غرابة إذن ولا مغالاة إذا قلنا إننا في بلد يتجرع فيه المواطن يوميا من مرارات الخيبة أكثر مما يتجرع من كؤوس الشاي ، باستثناء قلة قليلة شعارها (سأصنع أحلامي من كفاف يومي لأتجنب الخيبة) كما يقول محمود درويش ، لكن نجيب محفوظ يمدنا هو الآخر بطوق نجاة ذهبي (غالبا ما يفيد البرود وهو إن لم يفد يعزي عن الخيبة).
إن ظاهرة الاستسلام للمقادير من طرف النظام الحاكم ؛ هذا التردد ؛ هذا الركون إلى الواقع وترك الحبل على الغارب ، بتنا معه نخشى على من يديرون الأمور عندنا أن يكونوا من متصوفة الفلسفة التاوية الصينية القديمة التي تقول بعض تعاليمها محذرة من معاكسة الطبيعة من طرف الانسان المتمدن (دع كل شيء يكون ما هو عليه فسيكون السلام) .
هل سيكون مفيدا إذن إن ذكرنا سائس أمورنا بمقولتين للفيلسوف مكيافيلي الأولى: (الطريقة الأولى لاختبار ذكاء الحاكم هي بالنظر إلى الرجال الذين يحيطون به) ، والمقولة الثانية: (الرجل الحكيم يفعل في الحال ما يفعله الأحمق في النهاية)؟.
لن أغامر في تقدير مدى أهمية كل ذلك لكن الأمانة تقتضي قوله وإن تصاممت عنه الآذان ، لنقله إذن حتى لو كان قوله مجرد حب للثورة الخلاقة لا الثورة الفوضوية ، يقول الصحفي البريطاني جورج أورويل (في وقت الخداع العالمي يصبح قول الحقيقة عملا ثوريا).
لا يفوتنا هنا في أفق الحوار المرتقب إلا أن نستغرب محاولة بعض الساسة ابتزاز السلطات الحاكمة التي تطمح لتشاور جامع ، إن وضع العراقيل أمام التشاور للحصول على ضمانات ما ، أو مزايا لا سمح الله هو سطو على أدبيات السياسة الرصينة ، هو تحجر وانغلاق وتقوقع في المعبد القديم .
السياسة في جوهرها نضال من أجل قيم أسمى لتقرير مصير الوطن والأجيال ، لا نريد أن يكون من بين سياسيينا من نصرخ في وجهه غدا (الخمر يلعب برأسي وزوجتي تلعب بجيوبي والبقال يلعب بحساباتي وأكثر من زعيم سياسي يلعب بمصيري) الأديب السوري محمد الماغوط ، ولا من نصمه بعد رحيله عن دنيانا الفانية ـ مد الله في أعمار الجميع ـ بمقولة ونستون تشرشل (رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحا كتب على شاهده هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق ، فتعجبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد).
أيها القارئ الكريم أستمحيك عذرا لأقول إن هدف هذا المقال إثارة جملة من النقاط:
أولا : الهوية
يتواصل ...
محمد محمود إسلم عبد الله