الراصد: خلال استحقاقات انتخابية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، قررت دعم المعارضة في المقاطعة المركزية بولاية الحوض الشرقي ؛ كانت الحملة الانتخابية شاقة ومهينة، حيث استغل "الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي" كل الرافعات المتاحة (الوسائل البشرية والمادية للإدارة العمومية، القبيلة، ترهيب المعارضين على قلتهم، شراء الذمم، احتكار التجهيزات والمعدات، البذخ المالي واللوجستي...) لسحق نواة المعارضة قبل يوم الاقتراع. وأمام استحالة الوقوف في وجه "اتسونامي" التزوير الرسمي، قررت، يوم الاقتراع، التركيز على بعض الجيوب السكنية على امتداد المقاطعة، أملا في الحصول على نسبة مئوية من رقم واحد -على أية حال-، لكن أبعد ما يمكن من الصفر... في هذا الإطار، زرت عدة تجمعات، فكانت المفاجأة! على سبيل المثال، طلبت من حوالي عشرين ناخبا من قرية في إحدى البلديات التابعة للمقاطعة المركزية مرافقتي للإدلاء بأصواتهم في مكتبهم الذي كان موجودا في قرية أخرى تبعد أقل من أربعة كيلومترات. توقفت السيارة أمام المكتب الانتخابي المفترض (حوالي الساعة الحادية عشر)، فنزلت واتجهت نحو "المكتب" لأجد بداخله ثلاثة أشخاص يحتسون الشاي ويتناولون "وجبة خفيفة" (گرته واتنبسكيت (أو امبسكيت) ). رغم الكثافة السكانية، لم ألاحظ أي مؤشر يدل على أن هناك مكتبا للتصويت: لا حيز للاقتراع السري، لاطاولة، لاحبر، لا لوائح، لاصناديق اقتراع، لاناخب ، لاشيء... بعد السلام، سألت عن "مكتب التصويت"، فانبرى أحد الرجال يرحب بي بحرارة ويطمئنني على أنهم سيهيئون بسرعة ما يلزم لتصويت المجموعة، ثم بدأ ينادي بصوت عال : "جيبونّ ادره!" (آتوني بغطاء!)، ثم شرع مباشرة وبمساعدة أحد رفاقه في تثبيت هزلي لمسمارين في جدار البيت الطيني، إيذانا بمحاولة مبكية-مضحكة لتخصيص إحدى زوايا البيت للاقتراع السري. كان المشهد لا يطاق. في النهاية، تعذر الحصول على "البساط" وبينما أنا والجماعة ننتظر "فرجا ما"، جاء رجل وجلس بجوارنا، قرب باب "المكتب" ؛ بدأت أرقب هذا الرجل الهادئ والذي لم ينبس ببنت شفة بعد نهاية طقوس السلام المطولة. لقد كان يوما عاصفا، كما هو العادة خلال شهر أكتوبر في المنطقة، فجأة حاول الرجل الوقوف، فتطايرت منه بطاقات التصويت في الهواء بالعشرات وتساقط بعضها على الأرض، قرب قدمي؛ عندها فهمت مهمة الرجل، فقررت مغادرة المكان ورفاقي، دون تحميل المشرفَين على "المكتب" أو الرجل الثالث داخله والذي بقي يراقب المشهد دون تدخل أو "الزائر" الذي قدم ل-"التصويت" نيابة عن جماعته، وزر غش ممنهج خطط له أناس سيئون وقبضوا ثمن ذلك توظيفا غير مستحق وعقود تموين وهمية، على بعد أكثر من ألف كيلومتر من "المكتب الانتخابي" للقرية x الوديعة!...
عدت برفاقي إلى قريتهم ثم قررت التوجه إلى أقرب وأهم سلطة إدارية من المكان (رغم عدم الاختصاص!)، حاكم مقاطعة مجاورة، مدينة أحب كرم أهلها وثقافتهم العريقة. كان علينا قطع أقل من ثلاثين كيلومترا، لذا لم تستغرق الرحلة إلا حوالي نصف ساعة ؛ لم أكن بحاجة إلى السؤال عن المكان الذي أقصده. بعد توقف السيارة، لاحظت أن باب مكتب الحاكم كان مفتوحا، فتوجهت إليه مباشرة، فحدثت "أم المفاجآت" : صديق لي وأحد رموز المقاطعة السياسيين جالس مكان الحاكم ومنشغل بالطباعة على حاسوب محمول. لقد سعدت بلقاء هذا الصديق وبعد التحايا والمزاح (سألته مثلا هل تم تعيينه حاكما للمقاطعة المذكورة، فرد بأن علي أن أتخلى عن "الأوهام" وأن أكون "واقعيا" بخصوص فهم "المسرحية" الديمقراطية في البلاد وأنه من الأفضل بالنسبة لي محاولة "مساعدة" نفسي ومحيطي بشكل ذكي...)، سألته عن مكان تواجد الحاكم، فأجابني بطريقة فهمت من خلالها أنه لا نية لديه لتحديد هذا المكان أو أنه لا يعرفه بالضبط. بعد توديع هذه الشخصية، توجهت مباشرة إلى المقاطعة المركزية، النعمة ومنها مباشرة إلى نواكشوط، دون إشعار أي كان ودون السؤال عن أية نتيجة انتخابية، وخيبة الأمل تثقل تفكيري...