الراصد: أخصائيو علم التاريخ وحدهم مؤهلون لتعليل وتفسير وتمحيص الأحداث السياسية على اختلافها، إلا أن ذلك لا يمنع "الهواة" من الإدلاء بدلائهم قراءة وشرحا وتأويلا لهذه الأحداث. وفي هذا الإطار، أعتقد أنه يمكن -باختصار شديد- تقسيم تاريخنا السياسي الحديث إلى حقب رئيسية.
هناك حقبة "التأسيس" على يد المرحوم المختار ولد داداه التي تميزت بمحاولات جادة لاستنبات "عقل الدولة الموحدة والعصرية" في بيئة متعددة المشارب والولاءات... لقد قصمت موجة الجفاف الماحق -إضافة إلى مغامرة "حرب الصحراء" غير المحسوبة- ظهر الدينامية الواعدة لحقبة "التأسيس" تلك...
تعرفت على هذه الحقبة من داخل أقسام المدرسة الجمهورية، وأود هنا التعبير عن تقديري وامتناني لنظام وفر لي -ولكثيرين آخرين- أسباب التعلم والتكوين، دون ظلم أو تمييز أو منٍّ( سياسي)...
أما الحقبة الثانية فهي الحقبة "الاستثنائية" التي دشنها انقلاب يوليو ١٩٧٨ بقيادة المرحوم المصطفى ولد محمد السالك وتواصلت برئاسة المرحوم محمد محمود ولد أحمد لولي لأشهر قليلة وانتهت بفترة حكم الرئيس محمد خونه ولد هيداله (شفاه الله ورعاه). وتميزت هذه الحقبة بالاضطراب المؤسسي الحاد وتراجع عقل الدولة بشكل لافت، فتنامت النعرات القبلية والشرائحية والعرقية والفئوية والجهوية، في ما بدا وكأنه ردة فعل على محاولات التطوير المجتمعاتي الأولى، إلا أن قطاع التعليم لم تطله يد العبث لأسباب أجهلها. ومن الإنصاف -وكدليل على ما سبق- أن أذكر هنا أنني واصلت مشواري التعليمي بمساعدة الدولة الموريتانية ونجحت لاحقا في مسابقات وامتحانات وطنية هامة، دون أي شكل من أشكال الغش أو الوساطة، كما حصلت على أفضل منحة للدراسة في الخارج فضلا من الله تعالى وبناء على نتائجي التربوية وحدها...
أما الحقبة الثالثة والتي بدأت مع انقلاب ١٩٨٤ بقيادة الرئيس معاوية ولد سيدأحمد الطائع (حفظه الله)، فيمكن اعتبارها "مرحلة الفساد الممنهج"،؛ ولا أعني الفساد المالي أوالإداري فحسب، بل أقصد "أبو الفساد" أي الفساد التربوي... لقد تميزت هذه الحقبة بظهور قاموس لغوي رديء تضمن، من بين مفردات مشؤومة أخرى، مفاهيم "اتلحليح" و"الگزره" و"التبتيب" ومرادفاتها التربوية؛ "الغش في الامتحانات" و"تسمين النتائج التربوية" و"تزوير الشهادات". لقد لاحظت، وأنا طالب في الخارج، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، توافد ممنوحين جدد كنا جميعا نعرف مساراتهم المدرسية المتواضعة والمبررات غير الموضوعية وغير العادلة لمنحهم على حساب أصحاب الاستحقاق ؛ فتفشت، بعد قدومهم، ظاهرة الرسوب في صفوف الطلبة الموريتانيين وفقدت شهادة الباكالوريا الموريتانية -لأول مرة- معادلتها لمثيلاتها في دول وازنة علميا وتكنولوجيا...
أما الحقبة الرابعة فيمكن اعتبارها "حقبة رمادية" اضطر خلالها النظام القائم على تبني مسودة دستور للبلاد، في إطار تحول جيوسياسي عالمي كبير وتحت ضغط خارجي قوي ومباشر. إلا أنها بقيت "مسودة" من منظور الحكامة العمومية الفعلية، بل زادت الوضع سوءا، حيث كان على النظام استرضاء طيف تقليدي وسياسي عريض للتغطية على "الغش الانتخابي"، فتعلم شعبنا "الديمقراطية" في مدرسة التزوير المكشوف على أكثر من صعيد... لقد راجت تجارة "العشائرية" و"الشرائحية" و"الفئوية" و"الجهوية" إلى حد أصبح فيه جزء كبير من المناصب الاستراتيجية في الدولة حكرا على “القواعد" وعيا وتكوينا وفكرا... وأود هنا الإشارة إلى أن هذا النظام، ورغم معارضتي له، لم يمانع -كما كان بمقدوره- في اكتتابي في سلك التعليم العالي.
تحت ضغط عوامل منها استباحة البلاد من طرف الجماعات المتشددة في شبه المنطقة وتغول الفساد إلى حد شلل الدولة، دقت المحاولة الانقلابية الفاشلة على "النظام الديمقراطي"، سنة ٣..٢، ناقوس خطر أقنع أوساط حاكمة وازنة بحتمية "التغيير" الاستباقي، إنقاذا لهذا الأخير من انهيار شامل وشيك.
لقد عشت هذه الفترة كأستاذ للتعليم العالي وكمعارض سياسي، حيث واكبت "تحورات" قطب المعارضة الرئيسي في البلاد بدءا ب-"افديك" ومرورا ب-"إي اف دي” و "إي اف دي-أير نوفل" ثم "إي دى بي" وانتهاء ب-"التكتل"...
ودون تعميم غير مبرر، فقد انتشرت عدوى الفساد التربوي داخل تعليمنا العالي الوليد، ومن تجليات ذلك ولوج البعض ل-"الأستاذية" دون مؤهلات آكادمية دنيا، نتيجة للفساد الإداري المستشري وتزوير الشهادات الذي تفاقم في هذه الفترة بسبب التساهل المشين فيما يتعلق بمعادلة ...الشهادات، على وجه الخصوص. لقد كان بوسع البلاد أن تحمي هذا القطاع الناشئ من الفوضوية، خاصة أن ولوجه يخضع لشروط علمية واضحة ومتعارف عليها عالميا، كما كان باستطاعتها جلب طواقم تدريسية من الخارج ريثما يتم تكوين أساتذة موريتانيين بالمعيارية والمهنية المطلوبتين. وعلى إثر عجزها عن ذلك، حدث نوع من الهجرة "القطاعية" للأدمغة على حساب التعليم العالي. لقد كنت شاهدا على ممارسات ومسلكيات مخجلة تستغرق كتابا كاملا؛ فمثلا خلال إشراف، نهاية التسعينيات الماضية، على امتحان الباكالوريا في "ثانوية توجنين"، لاحظت أنني كنت أحوج إلى "رقابة بعض المراقبين" من رقابة التلاميذ... الشيء الذي دفعني -على مضض- إلى اعتزال "الإشراف الطوعي" على هذا الامتحان الوطني الهام.
(يتواصل إن شاء الله)