الراصد: لقد أدى مفهوم نسبية النظام الذي طبع الدولة في العصر الحديث بوصفه مظهرا من مظاهر الديمقراطية إلى احتفاظ الدولة بكيانها واستمرارها فقط ،مقابل إقرار حقوق الأفراد وترسيخ حرياتهم وتزويدها بالضمانات اللازمة لمواجهة السلطة الحاكمة بمختلف أشكالها وهيئاتها،إلا أن ذلك لم يمنع من بقاء الجدلية القائمة بين الحرية والنظام علي حالها لارتباط كل واحدة منها بالأخرى وجودا وعدما ،إذ لا وجود لحرية دون نظام.......... مما يفرض علي الاثنين التعايش معا في ظل ما يسعى إليه القانون في بعض الأحيان من حماية للنظام والدفاع عنه علي حساب الحريات ،وما يقوم به المدافعون عن الحريات من تضييق لمتطلبات النظام العام حتى لا يطغى علي الحريات الفردية بصورة عامة وضمانات المتهمين على وجه الخصوص باعتبارها من ابرز المواضيع المطروحة على الساحة القانونية ومن أكثرها إشغالا لبال الفقه الإجرائي في الوقت الراهن ،مما حدى بقانون الإجراءات الجنائية إلي أن أصبح من أكثر القوانين ارتباطا بتلك العناوين ، ولعل من أبرز مظاهر ذلك الارتباط ما وفره التشريع الإجرائي من ضمانات للمتهم أثناء التحقيق بحيث تتجلى تلك الضمانات في تخويل المشرع الموريتاني جهة قضائية بعينها مهمة التحقيق وتحديد اختصاصاتها وما يتعين أن تقوم به من إجراءات وما تصدره من أوامر وقرارات ،إضافة إلى ما أقره من مبادئ كمبدأ الشرعية ومبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة .
الضمانة الأولى:وجود سلطة مكلفة بالتحقيق:
إن الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق يعد من أهم الضمانات التي وفرها المشرع الموريتاني للمتهم تلك الضمانة التي تعد استجابة لمجموعة من الضرورات القانونية والواقعية التي من شأنها أن تصون الحريات الفردية وأن تجنب المتهم الوقوع في مواجهة خصم وحكم في آن واحد، إذ تتجلى تلك الصفة في كون جهة الاتهام التي هي النيابة العامة لا تتمتع بالاستقلالية التامة بفعل خضوعها لسلطة وزير العدل مما قد يؤثر علي نزاهتها وحيادها ويجعل المتهم مجردا مما كان سيتمتع به من حماية قضائية لو كلف قاض جالس بالتحقيق في قضيته، ثم إن إقرار مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق من شأنه أن يخلق ثقة كبيرة في نفوس المتهمين بشفافية العمل القضائي وبموضوعيته في التعاطي مع قضاياهم ويظهر ذلك من خلال ما يسمح به ذلك الفصل من مراقبة كل واحدة من تلك السلطات لعمل الأخرى بحيث يعوض تجاوز إحداها بيقظة الأخرى .
والي جانب ذلك فان وجود سلطة للتحقيق وفصلها عن سلطة الاتهام وان كان أمرا جوهريا إلا أنه لا يقل أهمية عن استقلالها عن سلطة الحكم، تلك السلطة التي لا يمكنها أن توجه إلي قاضى التحقيق نقدا أو لوما..... بسبب إجراء من إجراءات التحقيق كما أنه لا يجوز لقاضي التحقيق أن يكون عضوا في تشكيلة للبت في الدعوي التي سبق وأن قام بالتحقيق فيها وما ذلك إلا لتوفير أكبر ضمانة للمتهم من اجل تمكينه من عرض أوجه دفاعه أمام جهة لم يسبق لها أن نظرت في قضيته
وإذا كان تحديد المشرع للجهة المكلفة بالتحقيق يبرز بجلاء توجهه العام فيما يتعلق بحماية الحريات الفردية من عدمه وما يوليه للمتهم من رعاية وحماية، فان كفاءة المحقق وضمان حيدته واستقلاله يعد هو الآخر صمام أمان لضمان حقوق الأفراد واحترام حرياتهم، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إناطة مهمة التحقيق بقاض يتمتع بتلك المواصفات، وسبيلا إلى ذلك فقد أسند المشرع الموريتاني تلك المهمة إلى قاض جالس أطلق عليه مصطلح قاضي التحقيق حيث حدد مجال اختصاصاته من خلال ما نظمه في الباب الثالث من الكتاب الأول من قانون الإجراءات الجنائية، تلك الاختصاصات التي تتركز في الأساس حول التحقيق مع المتهمين المحالين إليه فيما تم توجيهه إليهم من تهم وجمع ما يمكن جمعه من أدلة عن تلك الجرائم، وعلي صحة نسبة ارتكاب المتهمين لها واتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات وقرارات وأوامر انطلاقا من قناعته ،علي أن يختتم تحقيقه في القضية باتخاذ قراره النهائي منطلقا في ذلك مما تم الحصول عليه من أدلة من شأنها أن تبرر إحالة ملف القضية إلي المحكمة المختصة أو عدم إحالته، إما بسبب سقوط الجرم، أو عدم اكتمال عناصره ،أو لكون الوقائع لا تشكل جريمة، أو لبقاء مرتكب الجريمة مجهولا،أو لعدم توافر الأدلة الكفيلة للقيام بإحالة الملف الشئ الذي يمكن معه القول بأن قاضي التحقيق يعد سيد لحظة الاتهام إذ لا يوجد ما يلزمه باتخاذ إجراءاته وقراراته في مدد أقصر مما هو محدد في القانون حني لا يتم خرق مبدأ حريته في اتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات وما يصدره من قرارات وهو في ذلك وغيره يتمتع بالحق في الإقتناع الشخصي مثله مثل أي قاض من قضاة الحكم
والاقتناع الشخصي نابع من الوقائع والأدلة المعروضة عليه، أو تلك التي قد حصل عليها نتيجة تحقيقه وهو بشتى أنواعه لا يتعدى كونه تقدير للأدلة وتحديد لمدى كفايتها من عدمه لأن تكون سببا في اتهام الشخص أو إصدار أمر بأن لأوجه للمتابعة في حقه، وقاضي التحقيق وكل المساهمين في القيام بإجراء من إجراءات التحقيق ملزمون بالمحافظة علي سرية التحقيق قدر المستطاع وفي حدود ما نص علي القانون دون الإخلال بحقوق الدفاع علي أن سرية التحقيق وان كانت تثير مخاوف لدى البعض مما قد تتسبب فيه من إساءة للمتهم باعتباره باعتباره الطرف الأضعف في الدعوى الجزائية، فان البعض الآخر قد اعتبرها تجل من تجليات الفصل بين الوظائف القضائية التي تضفي علي عمل قاضي التحقيق قدرا كبيرا من التجرد والموضوعية وتطبعه بطابع الاستقلالية وعدم الخضوع لأية سلطة كما أنها تعد ضمانة للمتهم من خلال ما توفره من عدم شيوع وقائع قد تمس بكرامته وشرفه بحيث يكون في مأمن مما قد يترتب علي إشاعة تلك الوقائع من أضرار فإذا كان الأصل حسب نص المادة 11 من قانون الإجراءات الجنائية الموريتاني أن إجراءات التحقيق وأوامره ............تعد سرية فان تناول المشرع لتلك السرية يظهر بجلاء أن إرادته في النص عليها قد اتجهت إلي وضع حد لكل ما من شأنه إعاقة أعمال التحقيق بشكل عام وتوفير الحماية التامة لحقوق المتهم ومصالحه بالقدر الذي يضع حدا لما قد يترتب علي عملية التحقيق من تجاوز لتلك الضمانات والحقوق، وتبرز فلسفة المشرع تلك أكثر من خلال حجم ونوع ما أورده من استثناءات على مبدأ سرية التحقيق وما تتميز به بعض إجراءات التحقيق من طابع العلنية مما يتعذر معه علي قاضي التحقيق كتمانها كما هو الحال مثلا بالنسبة لمعاينة مسرح الجريمة، أو إخراج الجثة ،أو إعادة تمثيل الجريمة ................الشئ الذي أصبح معه من غير المستبعد إفشاء أسرار التحقيق نظرا لطبيعة الاستثناءات الواردة علي مبدأ سريته ولاتساع نطاقها بسبب ارتباطها بأشخاص آخرين غير قاضي التحقيق وكتابة ضبطه، كالقضاة وضباط الشرطة القضائية في إطار الإنابات القضائية ،ودفاع المتهم والطرف المدني فيما يتعلق بحقوق الدفاع التي يكفلها القانون والتي تفرض ضرورة وضع ملف الإجراءات تحت تصرف المحامى، وكذلك الخبراء المكلفون بإجراء خبرة فيما قد يعترض قاضي التحقيق من مسائل فنية إضافة إلي ما سمحت به المادة 110 من قانون الإجراءات الجنائية من إمكانية تبليغ أوامر الإحضار والقبض في حالة الاستعجال بكل الوسائل وكذلك المادة 116من نفس القانون التي تسمح في حالة عدم العثور على المتهم بتبليغ أمر الإحضار إلي العمدة أو أحد مساعديه أو رئيس الدائرة الإدارية أو مفوض شرطة محل إقامة المتهم مما يمكن معه القول بأن كتمان السر المهني أو إفشائه أمر نسبي بحيث تتحدد تلك النسبية من خلال حاجة التحقيق وما يراه المحقق صالحا للكشف عن الحقيقة ومناسبا لحماية حقوق الأطراف بمن فيهم المتهم.
والي جانب ذلك فان من أهم الضمانات التي وفرها المشرع الموريتاني للمتهم وأكثرها ارتباطا بحقوقه ومصالحه ما نص عليه في المادة 101 من قانون الإجراءات الجنائية من إلزام قاضي التحقيق عند مثول المتهم لأول مرة وقبل أن يقوم بأي إجراء من إجراءات التحقيق إن يخبره بأن له الحق في اختيار محام للدفاع عنه وبغض النظر عن نوع وطبيعة التهمة الموجهة إليه ،فإذا ماتبين لقاضي التحقيق أن المتهم يعاني من عائق من شأنه أن يؤثر علي دفاعه ولم يختر محاميا للدفاع عنه وجب علي قاضي التحقيق أن يعين له بصفة تلقائية محاميا للقيام بذلك، وإمعانا منه في ترسيخ تلك الضمانة فقد أقر المشرع الموريتاني من خلال المادة 103 من قانون الإجراءات الجنائية حرية اتصال المتهم بمحاميه وحظر على قاضى التحقيق أن يضمن قراره القاضي بمنع الاتصال بالمتهم منع محامي هذا الأخير من الاتصال به كما أنه لم يجز لقاضي التحقيق من خلال المادة 105 من قانون الإجراءات الجنائية الاستماع للمتهم دون حضور محاميه ولو أنه استثنى من ذلك تنازل المتهم عن حضور محاميه صراحة أو عدم حضور المحامى رغم استدعائه وفقا للطرق والأشكال المنصوص عليها قانونا ،وفي كل الأحوال فان من واجب قاضي التحقيق أن يحيط المتهم علما بكل الوقائع المنسوبة إليه حتي يتمكن من معرفة التهم الموجهة إليه ومن ترتيب دفاعه، وان كان المشرع قد منحه الحق في عدم الإدلاء بأي تصريح، ضف إلي ذلك أن قاضي التحقيق ملزم قبل مباشرة إجراءات التحقيق في القضايا المعروضة عليه أن يتقيد بحدود اختصاصه حتي لا يتسبب في تعريض ما يقوم به من إجراءات للإبطال و ما يترتب علي ذلك من إطالة لأمد الدعوى الجزائية والاعتداء علي حق المتهم في أن يتم البت في قضيته بإجراءات صحيحة ومن طرف جهة قضائية مختصة وخلال مدة زمنية معقولة، وغير بعيد عن ذلك فان المشرع الموريتاني قد منح المتهم ضمانة أساسية ومهمة تتمثل في حقه في توجيه طلب لرئس المحكمة العليا للمطالبة برد قاضي التحقيق متى تبين للمتهم توافر واحد أو أكثر من أسباب الرد التسعة المنصوص عليها في المادة 603 من قانون الإجراءات الجنائية ،كما أقر المشرع من خلال نص المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية مبدأ استثنائية الحبس الاحتياطي ولم يجز الأمر به الا في حالات أربع نص عليها حصرا، ليقوم بعد ذلك وفي نفس المادة بتحديد فترة الحبس الاحتياطي ،وليحمل قاضي التحقيق المسؤولية عن أي إهمال من شأنه أن يتسبب في تأخير التحقيق أو يطيل أمد الحبس الاحتياطي ،ذلك أنه إذا لم يتخذ قاضي التحقيق أمرا بإنهاء التحقيق خلال المدد المحددة قانونا وجب علي مدير السجن أن يقوم بتقديم المحبوس احتياطيا الى وكيل الجمهورية الذي يقوم بدوره بتقديمه لقاضي التحقيق من أجل إطلاق سراحه فورا ما لم يكن معتقلا لسبب آخر بل وأكثر من ذلك لم يجز المشرع لقاضي التحقيق في بعض الجرائم التي يكون الحد الأقصى لعقوبتها الحبس أقل من سنتين أن يحبس المستوطن أكثر من شهر ،وان كان قد منحه الحق في تمديد فترة الحبس تلك لمدة مساوية متى تبين له وجود ضرورة لاستمرار حبس المتهم احتياطيا
وفي كل الأحوال فللمتهم الحق في طلب الإفراج المؤقت في أية مرحلة من مراحل التحقيق ،ومن واجب قاضي التحقيق أن يحيل طلب الإفراج المؤقت إلي وكيل الجمهورية لإبداء طلباته في مدة لا تتجاوز ثمان وأربعين ساعة من تاريخ استلامه للملف علي أن يفصل قاضي التحقيق في الطلب خلال مدة مساوية لتلك المدة تبدأ من لحظة رجوع الملف اليه
غيران قصر تلك المدة وان كان يعبر عن الطابع الاستعجالي للطلب المقدم لقاضي التحقيق فانه كذلك يقطع الطريق أمام ما قد يسجل من تباطئ في اتخاذ الإجراءات المطلوبة من طرف النيابة العامة وقاضي التحقيق بشأن طلب الإفراج المؤقت وما قد يترتب علي ذلك التباطئ من أضرار للمتهم ، بل إن المشرع الموريتاني قد ذهب إلي أبعد من ذلك حينما منح قاضي التحقيق من خلال نص المادة 142 من قانون الإجراءات الجنائية الحق في أن يأمر من تلقاء نفسه بالإفراج المؤقت عن المتهمين في غير جرائم القصاص والحدود ،والي جانب ذلك فقد أقر حق المتهم في إبلاغه بجميع القرارات والأوامر الصادرة في حقه وكذلك إمكانية استئنافه لها مع منع الطرف المدني أو محاميه من استئناف الأوامر المتعلقة باعتقاله أوضعه تحت المراقبة القضائية وهذه الضمانات من شأنها أن تسمح للمتهم بأن يكون علي علم بجميع القرارات والأوامر التي تصدر بشأنه ،كما تسمح له باستئنافها من أجل عرضها أمام جهة قضائية أخري وإثارة دفاعه أمام محكمة مشكلة من ثلاثة قضاة بدلا من القاضي الفرد الذي تولي التحقيق فيها وإصدار الأوامر والقرارات محل الاستئناف ، ولعل ذلك مما يسمح بالقول بأن الاستئناف يعد في حقيقته بمثابة نوع من أنواع المراقبة علي ما يقوم به قاضي التحقيق من إجراءات وما يصدره من أوامر وقرارات حتي تتاح الفرصة للمتهم للمطالبة بتصحيح ما أعتبر أن قاضي التحقيق قد أخل به من خلال أوامره وقراراته تلك ،علي أن غالبية الجرائم وان كان التحقيق فيها يتولاه قاض فرد فان المشرع الموريتاني قد أوكل تلك المهمة في جرائم الإرهاب والفساد.....لتشكلة خاصة وما ذلك إلا لخطورة هذا النوع من الجرائم ........ولعدم إمكانية التحقيق فيها من طرف قاض واحد ، وذلك لاحتمال ورود الخطأ فيما قد يقوم به من إجراءات ويتخذه من أوامر وقرارات
الضمانة الثانية :تكريس مبدأ الشرعية :
يمكن القول بأن مبدأ الشرعية بالمفهوم الواسع هو سيادة القانون وخضوع جميع الأعمال والتصرفات لحكمه، وهو من هذا المنطلق يعد من أهم المبادئ القانونية الواجبة التطبيق في أية دولة كانت باعتباره برهانا ساطعا علي رسوخ فكرة العدالة في ضمير الجماعة ،وتجسيدا سليما لما يجب أن يسود تصرفاتها من معان أساسها السكينة والاستقرار والصالح العام.............
بيد أن النظر إلي مبدأ الشرعية ومحاولة تعريفه من زاوية القانون الجنائي قد لا يختلف كثيرا من حيث مدلوله عن المفهم الواسع لهذا المبدأ،ذلك أن مبدأ الشرعية من منظور القانون الجنائي يمكن تلخيصه في جملة درجت مختلف التشريعات الجنائية علي النص عليها وهي عبارة ( لا جريمة ولاعقوبة الا بنص ) هذه العبارة كرس من خلالها التشريع الجنائي مبدأ الشرعية الجنائية الذي يعد من أهم المبادئ التي تقوم عليها نظرية القانون الجنائي وأكبر دعامة تستند عليها التشريعات الجنائية المعاصرة،إذ من خلاله تتم المواءمة بين الحريات الفردية والمصلحة العامة من خلال قواعد عامة ومجردة وضعت مسبقا ، وهذه الشرعية لا تقتصر علي شرعية الجرائم والعقوبات لوحدها وإنما تتعداها إلي الشرعية الإجرائية المتعلقة بما يتم اتخاذه من إجراءات لملاحقة الجاني والتحقيق معه ومحاكمته وتوقيع العقوبة عليه ،وهي بهذا المفهوم تعد الوسيلة الأحسن والأمثل لتطبيق الشق الموضوعي للشرعية الجنائية .
فمبدأ الشرعية أيا كان مدلوله يعد ضمانة أساسية ومهمة لحقوق الأفراد وحرياتهم ،بحيث يجعلهم في مأمن من تحكم السلطة أوشططها وذلك لضبط تصرفاتها وكبح جماحها بالقانون كما أنه يحمى الأفراد من تحكم القضاة وتعسفهم من خلال تقييدهم بنصوص قانونية تحدد نوع الجرائم والعقوبات وطبيعتها والإجراءات الواجب اتخاذها لذلك مما يفرض علي القاضي التأكد من أن الفعل محل المتابعة يشكل بالفعل جريمة معاقب عليها قانونا، وهو مع ذلك وفي جميع الأحوال ملزم بالمساواة بين جميع المتهمين كما أنه ملزم كذلك بالبحث والتحقيق في القانون الواجب التطبيق علي الواقعة المنشورة أمامه ،فإذا ما أصطدم القاضي بقانونين أحدهما سابق علي ارتكاب الجريمة والآخر لاحق عليها وجب عليه في مثل هذه الحالة الأخذ بعين الاعتبار القانون الأصلح للمتهم وتطبيقه علي النازلة ،علي أن يراعي في ذلك مبدأ عدم رجعية القانون التي تحتم علي المشرع عدم إصدار قوانين جزائية تسرى بأثر رجعي لأن منطق الأشياء يدل علي أن القانون لايكفى لوحده ما لم يوجد ما يلزم السلطة علي إتباعه واحترام قواعده ولا يتأتى ذلك إلا من خلال جهة قوية ومستقلة ،ولعل ذلك ما دفع بدستور العشرين يولي 1991 إلي اعتماد الرقابة القضائية حينما نص علي أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية،وأن القاضي لا يخضع الا للقانون وهو محمي في إطار مهمته من كل أشكال الضغوط التي تمس نزاهة حكمه ،وأن السلطة القضائية هي الحامية للحريات الفردية والضامنة لاحترامها وفقا لما نص عليه القانون.
الضمانة الثالثة: تكريس مبدأ الأصل في الشخص البراءة:لقد نص دستور العشرين يوليو1991 في مادته الثالثة عشر علي المبدأ القائل أن الأصل في الإنسان البراءة ،ويتجلي مفهوم هذا المبدأ في كون أي شخص متهم بارتكاب جريمة أيا كانت يجب أن يعامل في جميع مراحل الدعوى بوصفه بريئا إلي أن تتم إدانته بارتكابها عن طريق حكم قضائي صادر عن محكمة مختصة وحائز علي قوة الشئ المقضي فيه بعد ما تم تمكينه من حقه في الدفاع عن نفسه .
وهذا المبدأ وان كان قد تم إقراره استجابة لما تم تسجله من تجاوزات من طرف السلطة المكلفة بالاتهام وتلك المكلفة بالتحقيق طالت حريات الأفراد وسلامتهم الجسدية والنفسية من خلال ما يتعرضون له من إكراه وتعذيب، فإنها تعد كذلك استجابة لما تمتاز به الجريمة في كونها مجرد استثناء علي ما يطبع سلوك الفرد من انسجام وتقيد بنظام الجماعة الذي يضبط سلوكه وتصرفاته بضوابط من شأنها أن تكبح جماحه وتمنعه من الإقدام علي ارتكاب أي فعل قد يضر بمصلحة المجتمع أو أحد أفراده ، ولعل من أبرز تلك الضوابط ما يتمتع به الفرد في إطار التعاطي مع محيطه الاجتماعي من وازع ديني وأخلاقي واجتماعي إضافة إلي فكرة الردع القانوني المتمثلة في الخوف من العقاب .
كما أن إقرار هذا المبدأ كذلك يعد ضمانة أساسية ومهمة للمتهم ،وذلك من خلال ما يوفره من توازن بين ما تمتلكه سلطة الاتهام من وسائل وإمكانات للبحث عن الأدلة بوصفها من يقع عليه عبء إثبات ارتكاب المتهم للوقائع المنسوبة إليه ،وما يمتاز به الميدان الجزائي من حرية في الإثبات من جهة ،وما يتصف به المركز القانوني والواقعي للمتهم في إطار الدعوى الجزائية من ضعف في مواجهة سلطة الاتهام من جهة أخرى ،إذ في ظل نهوض قرينة البراءة تصبح مسؤولية القاضي فيما يصدره من قرارات وأوامر أكثر جسامة خصوصا من حيث ما يجب أن يستند عليه من أســــــس ومبررات في إصدارها ،وما يتعين أن تتصف به تلك الأسس من جزم ويقين علي اعتبار أن الأصل الذي هو براءة المتهم لا يمكن العدول عنه إلا من خلال دليل قوي وحاسم .
فقرينة البراءة تلك وان كانت تعد بمثابة قرينة بسيطة يمكن إثبات عكسها ،إلا أن مجرد الادعاء ومتابعة المتهم علي أساس ما ارتكبه من وقائع وتقديم ما يثبت ارتكابه لها من أدلة ،لا يكفي لوحده لضحض تلك القرينة وذلك لكونها تظل مرافقة للمتهم إلي أن تثبت إدانته بحكم قضائي بات ،وهي بهذا المفهوم تنتج آثارا قانونية وواقعية تشكل في حد ذاتها ضمانة أساسية للمتهم في جميع مراحل الدعوى ،بحيث يعد من أبرز تجلياتها حماية الحرية الشخصية للمتهم ،تلك الحماية التي تجعل قاضي التحقيق في واقع الأمر أمام أمرين تصعب المواءمة بينهما،بحيث يجد نفسه أمام ما نص عليه الدستور من أحكام تتعلق بالمحافظة علي الحريات واحترام المبدأ القائل أن الأصل في الإنسان البراءة من جهة .وأمام ما يفرضه القانون والواقع من ضرورة التحقيق فيما هو منشور أمامه من وقائع والوقوف علي حقيقتها والبحث عن وسائل وأدلة إثبات نسبتها للمتهم من عدمه من جهة أخرى ،وهو في ذلك ملزم بأن يعمل كل ما بوسعه للحيلولة دون إحالة برئ للمحاكمة أو إفلات مجرم من العقاب ، ولا يتأتي ذلك إلا من خلال حياد قاضي التحقيق الذي يفترض فـــــيـه التعامل مع جميع أطراف الدعوى العمومية بشكل موضوعي ومجرد أساسه تقييم ما تقدمه النيابة العامة من أدلة وما يسفر عنه التحقيق من وسائل إثبات ،تقيما يأخذ في عين الاعتبار ما إذا كان الدليل المقدم أو المتحصل عليه يرقى بالفعل إلي أن يشكل قناعة راسخة لدى قاضي التحقيق بضرورة إحالة المتهم إلى المحكمة المختصة من أجل محاكمته ،أم أنه مجرد واقعة فحسب لا ترقي للاعتداد بها كدليل للإثبات ،والفيصل في ذلك كله هو قناعة القاضي تلك القناعة التي تفرض عليه الانحياز لقواعد العدل والإنصاف بمجرد أن يحصل لديه أدني شك حول الدليل المقدم إليه ،إذ يتعين عليه في مثل هذه الحالة أن يفسر ذلك الشك لصالح المتهم .
وكخلاصة فان فصل سلطة التحقيق عن سلطة الاتهام وإناطة مهمة التحقيق بقاض جالس لا يخضع سوى للقانون حسب تعبير المشرع الدستوري ،وان كان أمرا في غاية الأهمية باعتباره ضمانة أساسية من ضمانات المتهم أثناء التحقيق ، فان تلك الضمانة تظل عاجزة عن تحقيق ما شرعت من أجله أصلا ما لم تتم مواكبتها بتوفير العديد من الوسائل التي لا غنى عنها في عملية التحقيق ،وذلك من منطلق أن الأمر لا يتعلق بمجرد إسناد تلك المهمة إلي قاض بعينه وتحديد مجالات اختصاصه ،وإنما يتعدى ذلك إلي جوانب عدة تكتسي أغلبها طابعا فنيا يخرج بطبيعة الحال عن مجال معرفة وتكوين القاضي المكلف بالتحقيق ،ولعل من أبرز تلك الجوانب وأكثرها ارتباطا بالتحقيق تلك المتعلقة بمصالح وهيئات الطب الشرعي وبالمخابر المختصة في تحليل وفحص ما قد يتم حجزه أو وضع اليد عليه من عينات أثناء معاينة الجريمة والوقوف علي مسرحها وتلك التي قد يكلف قاضي التحقيق جهة بعينها أو خبيرا قضائيا لإجراء خبرة حولها من أجل إنارته وتمكينه من الكشف عن ملابسات بعض الوقائع المنشورة أمامه ، إضافة إلي وجود جهات مختصة في تصوير المشتبه فيهم بناء علي ما يدلي به شهود العيان من مواصفات ،وكذا رفع ما يخلفونه من بصمات أثناء ارتكابهم للجريمة بحيث تعد دليلا حاسما في الكشف عنهم وإلقاء القبض عليهم إذا ما تم التعامل مع تلك الصور والبصمات بطريق فني ومحترف ، وفي هذا الإطار دائما فان بلادنا وان كانت قد قطعت أشواطا كبيرة في إطار بناء وإعداد حالة مدنية منظمة ودقيقة ومؤمنة تضبط هوية جميع ساكنتها بما في ذلك بصماتهم،فان ذلك التطور لم يتم استغلاله إلي حد الساعة في المجال الجنائي خصوصا ما يتعلق منه بالبحث والتحقيق وجمع الأدلة.........
وأمام غياب استخدام الوسائل العلمية الحديثة في البحث واستنباط الدليل ، نظرا لافتقار المنظومة القضائية لمثل تلك الوسائل ،فان ما يقام به من تحقيق في الجرائم وبحث عن مرتكبها يظل دون مستوي ما يطبع إجراءات التحقيق في العصر الحديث من نجاعة وما يميزها من موضوعية في التعاطي مع الوقائع الجرمية موضوع البحث والتحقيق نظرا لما تتيحه تلك الوسائل لقاضي التحقيق من مجال واسع في البحث عن الدليل واستنباطه من خلال مجموع ما تم القيام به من إجراءات.
والله أعلم
القاضي : عبد الله اندكجلي