تظل التدابير التي تتخذها الدول على طريق الانتقال نحو الديموقراطية غير ناجعة وغير متينة؛ إذا لم تستحضر ضمن مقوماتها إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته؛ على اعتبار أنه يشكل الدعامة الأساسية التي يفترض أن تحمي الديموقراطية وتقويها من خلال فرض سيادة القانون وإعطاء بعد قوي للمؤسسات.
ولا شك في أن القضاء بدوره يظل بحاجة ماسة إلى فضاء ديموقراطي مبني على الشفافية والتداول السلمي للسلطة؛ بالصورة التي تمنحه القوة والشجاعة في تطبيق القوانين وحماية الحقوق والحريات.
ترتبط الديموقراطية عادة بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي بما يسمح بإشراك المواطنين في تدبير أمورهم والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تهمهم، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة على تدبير الاختلاف بشكل بناء. وهي مسيرة معقدة ومركبة تحتاج إلى مجموعة من العوامل والشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والقانونية والمؤسساتية.
إنها عملية مجتمعية تخص الحاكمين كما المحكومين وترتبط بالقيم وبالمؤسسات؛ وتشمل العديد من المبادئ مثل الإصلاح الدستوري؛ ومبدأ الشفافية والاعتراف بسيادة القانون. والإقرار بنظام التعدد السياسي وتطوير المجتمع المدني والتداول السلمي على السلطة(1).
وقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفقرة الثالثة من مادته الحادية والعشرين على أن "إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة؛ ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب رأي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت".
وبدأت الديموقراطية في العقود الأخيرة التي أعقبت انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة -كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة من القضايا الحيوية الأخرى كحقوق الإنسان والمحافظة على البيئة ومكافحة "الإرهاب"..- تستأثر باهتمام دولي متزايد؛ بعدما ظلت حتى وقت قريب تعد شأنا داخليا محاطا بجدار سميك فرضته سيادة الدول، وهذا ما شكل في أحد جوانبه رادعا معنويا في مواجهة مختلف الأنظمة الديكتاتورية.
وهكذا؛ تزايد الاهتمام الدولي في العقود الأخيرة بقضايا الديموقراطية باعتبارها عنصرا أساسيا من عناصر الحماية الدولية لحقوق الإنسان؛ وتبين ذلك سواء من خلال التدابير والإجراءات التي تتخذها الأمم المتحدة باعتبارها منظمة عالمية أو من خلال بعض التدابير الانفرادية التي تقودها بعض الدول الكبرى في مواجهة الأنظمة التي تعتبرها غير ديمقراطية، بالصورة التي أضحى معها احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان مؤشرا أساسيا ضمن مجموعة من المؤشرات التي يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول.
وإذا كانت الممارسة الديموقراطية تسمح بخلق فضاء مناسب لبناء قضاء قوي؛ فإن وجود قضاء مستقل يشكل من جانبه دعامة متينة للممارسة الديموقراطية وترسيخ المساواة أمام القانون.
إذن؛ هناك علاقة قوية متبادلة بين إصلاح القضاء والممارسة الديمقراطية؛ فالديموقراطية تظل بحاجة ماسة إلى قضاء مستقل قادر على مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية؛ بعيدا عن أي تدخل قد تباشره السلطات الأخرى؛ مثلما يظل القضاء من جانبه بحاجة إلى شروط موضوعية وبيئة سليمة مبنية على الممارسة الديمقراطية تعزز من مكانته وتسمح له بتحقيق العدالة المنشودة؛ بعيدا عن أي استهتار أو انحراف بالقوانين.
يقصد باستقلالية القضاء؛ عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية؛ بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.
ويفترض أن يقوم مبدأ الاستقلالية على مجموعة من المرتكزات التي تعززه؛ من قبيل اختيار قضاة من ذوى الكفاءات والقدرات التعليمية والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية؛ وتسمح للقضاء بأن يحظى بنفس القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية؛ وتجعله مختصا على مستوى طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة؛ مع توفير الشروط اللازمة لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلى وجود ضمانات خاصة بحماية القضاة من أي تدخل يمكن أن تباشره السلطتين التشريعية والتنفيذية في مواجهة أعمالهم أو ترقيتهم أو عزلهم؛ وإحداث نظام تأديبي خاص بهم، كما يتطلب وجود هيئة مستقلة تسهر على اختيار القضاة وتعيينهم على أساس الكفاءة وتأديبهم.
وينطوي مبدأ فصل السلطات على أهمية كبرى على اعتبار أنه يحدد مجال تدخل كل سلطة على حدة ويمنع تجاوزها، غير أن هذا المبدأ لا يعني الفصل الصارم والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية؛ السلطة التنفيذية؛ السلطة القضائية) ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلى سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام والقرارات، كما يظل بحاجة أيضا إلى قوانين ملائمة تصدرها السلطة التشريعية؛ كما أن المشرع بدوره يظل بحاجة إلى السلطة التنفيذية والقضائية؛ والسلطة التشريعية بحاجة إلى السلطتين القضائية والتنفيذية.
ومن هذا المنطلق فالعلاقة يفترض أن تكون في إطار الضوابط القانونية دون تجاوز أو مصادرة؛ فالقضاء الدستوري هو الذي يبت في مدى دستورية القوانين؛ فيما يختص القضاء الإداري بالنظر في مدى شرعية أعمال الإدارة وإمكانية إلغاء قراراتها في حالة وجود تعسف في استعمال السلطة.
إن السلطة التنفيذية لا يجوز أن تتطاول على المهام القضائية بالضغط أو التأثير؛ أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في حقها من قبل مختلف المحاكم؛ أو تعطيل تنفيذها أو توجيه النقد إليها؛ مع الحرص على توفير الشروط التقنية والمادية الكفيلة بضمان حسن سير العدالة.
وعلى السلطة التشريعية أيضا؛ ألا تتدخل في أي منازعة تندرج ضمن الاختصاص المخول للقضاء؛ أو منح جزء من صلاحياته إلى جهات أخرى.
ومعلوم أن القضاء الاستثنائي الذي تجسده المحاكم الخاصة؛ يعد أحد العوامل التي تسيء لاستقلالية القضاء؛ من حيث كونه يسمح للسلطات التنفيذية والتشريعية بالتدخل في مسار القضايا المعروضة عليه.
لقد أكدت العديد ن المواثيق والإعلانات والقرارات الدولية على أهمية استقلالية القضاء في تحقيق العدالة؛ وطالبت الدول باحترام هذا المبدأ وبلورته ميدانيا؛ فالمادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 تؤكد على أن: "كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق؛ ولا فصل للسلطات؛ ليس لديه دستور".
كما أن المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تشير إلى أنه: "لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه".
وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان في مؤتمر "سانتياغو" سنة 1961 على أن "وجود قضاء مستقل يعد أفضل الضمانات للحريات الشخصية؛ وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية ترصد لتأمين استقلال السلطة القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخرى عليها، وذلك بالحيلولة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في إجراءات القضاء".
وفي نفس السياق؛ نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد وعرض للتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 أ د -21 المؤرخ في 16 كانون/ ديسمبر 1966 (تاريخ بدء النفاذ: 23 مارس/ آذار 1976) يؤكد في المادة 14 منه؛ على أن "الناس جميعا سواء أمام القضاء؛ ومن حق كل فرد؛ لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية؛ أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية؛ منشأة بحكم القانون".
وجاءت المبادئ الخاصة بميثاق القضاة الأوروبيين، ومبادئ رابطة القضاة الدولية، والإعلان العالمي حول استقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال عام 1983، وكذلك اتفاقية الرياض المرتبطة بسلوك القاضي العربي، لتلح على أهمية استقلالية القضاء؛ وتم التأكيد على ذلك أيضا ضمن المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في "ميلانو" بإيطاليا من 26 آب/ أغسطس إلى 6 أيلول/ ديسمبر 1985؛ حيث اعتمدت ونشرت بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 32/40 المؤرخ في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985؛ و146/40 المؤرخ في 13 كانون الأول/ ديسمبر 1985.
وقد تم التأكيد خلالها على ضرورة إيلاء الاعتبار لدور القضاة ولأهمية اختيارهم وتدريبهم مع حث الحكومات على بلورة مجموعة من المبادئ الأساسية التي تضمن هذه الاستقلالية في تشريعاتها وممارساتها الوطنية؛ من خلال(2): وضع الدولة لضمانات تكفل استقلال السلطة القضائية والتنصيص على ذلك ضمن بنود الدستور أو القوانين الأخرى، فصل السلطة القضائية في القضايا المعروضة عليها بشكل مستقل ومحايد؛ بعيدا عن أي ضغط أو تهديد أو تدخل مباشر أو غير مباشر، إعمال السلطة القضائية لاختصاصاتها فيما يتعلق بالقضايا ذات الطابع القضائي، عدم التدخل في الإجراءات والتدابير والأحكام والقرارات القضائية(3) عدم جواز إحداث محاكم استثنائية لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة في إطار النظام القضائي المعمول به، ضمان سير الإجراءات القانونية بعدالة واحترام حقوق الأطراف؛ ثم توفير الموارد اللازمة والكافية التي تسمح للسلطة القضائية بأداء مهامها بطريقة سليمة.
ومن خلال ما سبق؛ يتبين أن استقلالية القضاء؛ تتأسس على مرتكزات ذات طابع شخصي ترتبط باستقلالية القاضي نفسه وحياده وحصانته المادية والمعنوية؛ وأخرى ذات طابع موضوعي ترتبط بتقوية القضاء بالشكل الذي يجعل منه سلطة حقيقية على قدم المساواة مع السلطات الأخرى وعدم التدخل في مهامها واختصاصاتها من لدن السلطات الأخرى(التشريعية والتنفيذية) أو التطاول والمساس بالاختصاص الأصلي للقضاء من خلال محاكم استثنائية أو مؤسسات تنفيذية وتشريعية.
يعتبر القضاء المستقل مؤشرا محوريا ضمن مؤشرات التنمية الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..؛ فهو مدخل فعال للتغلب على الجريمة في مختلف أبعادها ووسيلة رئيسية لتكريس العدالة وحماية الحريات وضمان احترام حقوق الإنسان؛ وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار؛ كما أن هناك علاقة وطيدة بينه وبين بناء مجتمع ديموقراطي.
إن استقلالية القضاء هي تجسيد للعدالة وعنصر محوري وهام ضمن الأسس التي ترتكز إليها دولة القانون وهي شرط من الشروط الضرورية التي تؤسس لتوازن السلطات؛ بما يسهم في ضمان الاستقرار داخل المجتمع ويكفل سير المؤسسات بشكل سليم؛ ويرسخ ثقة المواطنين فيها(المؤسسات) ويحمي الديموقراطية نفسها من كل انحراف أو زيغ.
فانتهاكات حقوق الإنسان التي تشهدها الكثير من البلدان العربية؛ لم تكن لتقع بنفس الشكل والوتيرة والخطورة في وجود قضاء قوي ومستقل.
كما أن الانتخابات التي تفرز نخبة يفترض أن تتولى تدبير الشأن العام والوطني والسهر على قضايا المواطنين الحيوية؛ تتطلب وجود قضاء فعال ومستقل قادر على ضمان نزاهتها ومرورها في جو سليم وبناء؛ من خلال معاقبة المفسدين وتكريس تكافؤ الفرص واحترام إرادة الجماهير.
ولذلك هناك عدد من الباحثين من يعتقد بأن وجود قضاء مستقل يؤكده ويحميه الدستور هو شرط أساسي للديموقراطية يتجاوز في أهميته إجراء الانتخابات ذاتها..
إن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته ليس بالأمر الهين كما يعتقد البعض؛ وإنما هو عملية مركبة تفترض تجنيد عدد من الجهات وتوافر إرادة سياسية حقيقية بالإضافة إلى شروط قانونية وتقنية مختلفة.
وهو مدخل حقيقي يسهم في تعزيز وترسيخ الممارسة الديموقراطية على أسس متينة؛ كما يسمح بوضع الشروط الكفيلة بتنمية مستدامة ترتكز إلى الثقة في القانون وتشجيع الاستثمار الوطني والدولي؛ والتحفيز على الاهتمام بالشأن العام وترسيخ مواطنة بناءة؛ وقد أكدت الكثير من التجارب الميدانية تلك العلاقة الوطيدة بين إصلاح القضاء والتطور الاقتصادي.