سطّر انطلاق القنوات الفضائية العربية في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم فصلا جديدا في تطور الإعلام المرئي؛ إذ أضحت القنوات الرسمية العربية بخطابها الديماغوغي جزءا من الماضي الذي لا يندبه أحد! كما اقتضى ذلك الانتشار الجغرافي الواسع وما أعقبه من تصاعد ملحوظ في نطاق التأثير مراجعة شاملة للاستراتيجيات والخطط التنفيذية الإعلامية.
أدرك البعض حينها خطورة الانتقال إلى الجيل الثاني من الإعلام، أو دعنا نُسمّه “الإعلام-2″، فسارع إلى دراسة التجربة وتفهم أبعادها الجوهرية، ثم التحق بالركب، بينما ظن آخرون، وبعض الظن إثم، أن التحوّل ظاهرة مؤقتة، وأن الأيام ستعود إلى البركة الآسنة التي يعشقون الخمول فيها.
لم يكن موقف “النائمين” بدعة جديدة، فديدن الإنسان الركون إلى المألوف والخوف الفطري من المستحدث؛ رأيناه منذ فجر التاريخ منذ كفر البشر برسالات الأنبياء، وفي خشيتهم عموما من التحولات التي تضرب في عُمق الأوضاع الاجتماعية.
كان التقاعس، بسبب الكسل والتحجر، سمة أصيلة لدى النائمين، ولم يدركوا لضيق آفاقهم بأن العالم يشهد صياغة جديدة، تعاظمت منذ منتصف التسعينيات بثورة المعلوماتية التي غيّرت وجه العالم، وأضافت إلى المعرفة البشرية أضعافا مضاعفة. كما لم يستوعبوا أن تجربة الإعلام المرئي التي عهدوها قد أصبحت في الواقع شيئا من الماضي!
أما الحالمون ففهموا طبيعة التغيير سريعا، ولكن وقفت الإمكانيات البشرية والمادية، والتعنت السياسي، عوائق منعتهم من تحقيق النهضة المنشودة.
هكذا انقضت العقود الثلاثة الماضية، ومتابعو الإعلام المرئي في حيرة من أمرهم بين “النائمين” و”الحالمين”.
ثم انتقلنا إلى “الإعلام- 3” عندما تطور الإنترنت وبلغ رشده، وخاصة بظهور مواقع التواصل الاجتماعي منذ خمسة عشر سنة تقريبا، والتي سحبت البساط بشدة عن الإعلام والصحافة التقليدية، وتركتهما مثخنين بالجراح يعانيان الأمرّين.
لم يتردد “الإعلام- 4” الذي ظهر إلى الوجود منذ ثلاث سنوات تقريبا باندلاع ثورة التلفزيونات الرقمية (أبل وأمازون ونتفليكس أمثلة) من توجيه ضربات أكثر قسوة للإعلام التقليدي، وبدأ المتخصصون ينظرون بقلق بالغ إلى مستقبله، ويتساءلون ما إذا كان الإعلام التقليدي سينضم إلى المغفور لهم التلكس والفاكس وشريط الكاسيت والآلة الكاتبة!
من يتابع وتيرة التطور التقني الذي شهده الإعلام خلال السنوات الماضية سيُشفق لا محالة على مصيره، خاصة ونحن نستشرفُ انطلاق “الإعلام-5” الذي كانت طليعته التلفزيونات الرقمية، وتعزّزت هيمنته بانتشار الجيل الخامس من الاتصالات (5G)، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي غزت العالم بالفعل، والواقع المعزّز (Augmented Reality)، والواقع الافتراضي (Virtual Reality)، وغيرها من التقنيات المستحدثة التي ستُغير شكل العالم الذي نعيشه بالكامل، وليس المجال الإعلامي فحسب.
هذه التطورات المتلاحقة تطرح أسئلة مؤرقة على المتخصصين: هل نحن مستعدون لاستلهام التقنيات المستحدثة، واتخاذها جزءا أصيلا من الاستراتيجيات المستقبلية لقطاع الإعلام، وهل سنتخذ الاستعدادات القانونية والفنية والاجتماعية التي تجعل الانتقال سلسا، وما المعايير التي يجدر بنا وضعها منذ الآن لنتفادى الكبوات والإخفاقات، وهل سنُبدع المدونات المهنية المناسبة التي تدعمنا عبر “الولادة” الجديدة، أم أننا سنستمر في الدائرة الشيطانية بين النائمين والحالمين؟!
أسئلة حائرة تنتظر الإجابة.