الراصد : لم تُذكر بصورة معلنة روابط عضوية بين الأمرين لكنها بديهية: جائحة كورونا تشكل عامل ضعط مباشر وقوي على المنظومات الأمنية والأوضاع السياسية في كل بلد، وخاصة حيثما تكون التحديات الأمنية كبيرة؛ وهنا ينبغي أن تأتي دولة مالي ومنطقة الساحل على رأس البلدان التي تشغل بالنا في موريتانيا.
هشاشة الأوضاع الأمنية.. ومضاعفاتها في ظل جائحة فيروس كورونا...
خلال الأسبوعين الأخيرين تم اعتقال عدة أشخاص من طرف أجهزة "أمن الدولة" المالية.. ويجري البحث عن آخرين. ويُتهم الجميع - الموقوفين والمطاردين- بتحضير عمليات تهدف إلى " زعزعة استقرار مؤسسات الجمهورية".
وعلى رأس المعتقلين يوجد السيد صيبا دياوارا- وهو ضابط سابق في الجيش المالي برتبة ملازم أول. وقد لعب دورا محوريا في انقلاب 2012 على آمادو توماني تووري إلى جانب زعيم التمرد العسكري- النقيب آمادو هايا صونوقو.. الذي رُقِي بعد ذلك من رتبة نقيب إلى رتبة فريق. وكأنها مكافأة عظيمة له على عمله الانقلابي في زمن ولى فيه عهد الانقلابات العسكرية لحد تجريمها دستوريا من طرف دول منها موريتانيا
ومثْل رفيقه -الفريق صونوقو، فقد أطلق سراح صيبا دياوارا مؤخرا في حرية مؤقتة بعدما اعتقل عام 2013 مع آخرين في إطار ملف اختفاء جنود " القبعات الحمر".
ونُقل عن مصدر أمني مالي- لم يُكشف عن هويته- قوله أن عمليات الاعتقال الجارية منذ اسبوعين تشكل ردا أمنيا على محاولة انقلاب عسكري تم "قتلها وهي في طور المهد".. بينما ينتظر المراقبون والمواطنون الماليون بفارغ الصبر صدور رد رسمي من الدولة حول القضية.
وأيا كانت حقيقة ما يجري هنالك، فإنه يعيد إلى الأذهان هشاشة الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار في مالي وفي منطقة الساحل بصورة عامة.. وخاصة في ظروف الأزمة الصحية العالمية الراهنة.
ففي ظل جائحة- كورونا التي تكاد الأنظار والاهتمامات تنحصر حولها دون غيرها من المخاطر، فإن هذه الاعتقالات تذكرنا بأن التحديات الأمنية الداخلية لا تظل قائمة في منطقتنا فحسب، بل فمن الوارد تماما أن تزيد أزمة كوفيد 19 من خطورتها ومضاعفاتها بشكل مقلق: الأزمة وتداعياتها المتنوعة قد تغذي أو تثير حركات استياء أو غضب جماعية- أو فردية احيانا- تحمل بين احضانها اضرارا أمنية متعددة الأشكال: تصرفات متطرفة، إضرابات أو مظاهرات خارجة عن السيطرة، اعمال شغب، تمردات عسكرية...إلخ؛ كما أن الجماعات المسلحة الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة والعابرة للحدود سوف تعمل جاهدة للاستفادة من الأوضاع وما ينجم عنها من اضطرابات أمنية وسياسية، اجتماعية واقتصادية. وعلى الدول أن تجعل لهذا الأمر حسابه وتتصرف على ضوء المعطيات الأمنية والجيواستراتيجية الجديدة.
النموذج الموريتاني: "احْكمْ ألاَّ اتْزيدْ احْكيمْ"...
ففي هذه الظروف، نلاحظ أن حلفاءنا في الدول الغربية والدول الصناعية وغيرهم من دول العالم الاخرى منشغولون بانفسهم.. مما سيسفر بشكل أو بآخر عن تراجع معتبر- الله وحده يعلم مداه- في حجم ونوع المساعدات العسكرية الأجنبية التي كنا نتلقاها من الخارج. وهذا في الوقت الذي نحن فيه بحاجة ماسة إلى أن تظل القوات المسلحة وقوات الأمن في منطقتنا على درجة عالية من الجاهزية للقيام بهامها التقليدية بالإضافة لتأدية ادوار حيوية ورئيسية في مكافحة انتشار جائحة فيروس كورونا وتداعياتها.
وفي هذا المضمار سوف نتخذ من موريتانيا نموذجا لتجسيد ما نحاول بيانه في هذه الورقة، حيث نرى أنه ينبغي أن ينكب اهتمام قواتنا المسلحة وقوات أمننا على طاقات البلد الذاتية من خلال التركيز على محاور رئيسية سوف نتوقف عند ثلاثة منها : إعادة انتشار القوات بشكل فعال، اعطاؤها الأولوية في توفير العتاد والمعدات، تطوير تدريبها والسهر على تحفيزها وفقا للمتطلبات العملياتية الجديدة.
1. إعادة الانتشار...
سيتأثر انتشار القوات لا محالة بضلوعها على نطاق واسع في مكافحة أزمة كوفيد-19. ففي بلادنا تم الزج بجزء كبير منها في عمليات فرض حظر التجول، والسهر على منع عبور الحدود، والمشاركة في تنفيذ الحجر الصحي، والقيام بتوزيع المساعدات والمؤن على الفقراء والمحتاجين... إلخ. مما يعني تواجد هذه القوات وتحركها في ساحات عمليات جديدة وكثيرة بغية القيام بادوار طارئة وحيوية ليست ضمن مهامها التقليدية.
ويلزم هنا اتخاذ الاحتياطات المناسبة حتى لا تؤثر سلبيا إعادة انتشار القوات على العمليات الأمنية التقليدية، سواء الاحترازية أو عمليات التدخل. وهذا ما حرست عليه السلطات الموريتانية حسب ما يُستشف من العملية العسكرية الناجحة الأخيرة التي نفذتها بمهنية عالية عناصر من الجيش الوطني، برية وجوية، منذ ثلاثة أيام ضد عصابة من المهربين على الشريط الحدودي الشرقي مع دولة مالي (انظر: " الجيش الموريتاني يقبض على مهربين ويصادر أسلحة ومخدرات" ).
2. توفير العتاد والمعدات...
امتازت الأوضاع الناجمة عن جائحة كوفيد- 19 بشلل عام في النشاطات شمل جميع القطاعات باستثناء مجال الصحة ومجال عمل قوات الأمن والدفاع. ويلاحظ أن الميدان الصحي نال اهتماما لم يسبق له مثيل. حيث سخرت له مصادر مالية ومادية كبيرة. وعلى نفس المنوال ينبغي أن يستفيد قطاع الدفاع والأمن من دعم مالي ومادي يُمِد القوات بالوسائل الكفيلة بتأدية مهامها الجديدة والتقليدية في آن واحد .
وإن كانت المعلومات حول هذا الجانب شحيحة، نظرا لحساسية الموضوع وما يحيط به عادة من متطلبات أمنية تستدعي السرية، فإننا نجزم أن السلطات والقائمين على شؤون البلد على وعي تام بالأمر. ونعني هنا تزويد قواتنا بالوسائل والمعدات العسكرية التقليدية كالأسلحة والذخيرة ووسائل النقل والمعاش وغيرها من المتطلبات اللوجستية.. وكذلك المعدات الوقائية التي تتطلبها الجائحة: الأقنعة الوقائية، وسائل النظافة والتطهير... وهي طبعا ملزمة اكثر من أي وقت مضي بترشيد المصادر التي بحوزتها.
ويزيدنا يقينا بأن الإجراءات اللازمة تم اتخاذها، كون قوات الدفاع وقوات الأمن تؤدي مهامها بطريقة مرضية على العموم.. مع أننا لاحظنا غيابا للكمامات لدى عدد لا يستهان به من الأفراد المشاركين في عمليات حظر التجول. ونحن نعتقد أنهم مزودون بها.
ورغم ذلك، وعملا بالمثل الشعبي القائل " "احْكمْ ألَّا اتْزيدْ احْكيمْ"، فإننا لن نبخل جهدا في الحث على دعمهم ودعم قوات الدفاع وقوات الأمن وإمدادها بكل ما يلزم في هذه الظروف الخاصة التي أضافت مهام استثنائية كبيرة واكراهات جديدة ومعقدة إلى مهامها ومتطلباتها السابقة.
3. تطوير التدريب والسهر على التحفيز...
من المعروف لدى المكونين العسكريين أن "عرق التدريب يقي دم القتال". وجائحة كورونافيروس تضفي على هذه القاعدة بعدا جديدا: لا ينبغي التدريب فقط على أساليب القتال والردع ضد عدو بشري ، تقليدي أو غير نمطي، كما هو معروف في أدبيات التكوين العسكري وعقائد الجيوش فحسب، بل يجب أيضا التكوين واجراء التمارين على أساليب وطرق التدخل خلال الكوارث والمحن الطارئة التي كثيرا ما لا تكتسي طابعا عسكريا. وفي هذا المجال يدخل تصدي القوات المسلحة لأزمة فيروس كورونا.. مما يتطلب من أفرادها التحلي بسلوك جماعي وفردي يجمع بين الفعالية والأمان. فعليهم أن يقوموا بالمهام الموكولة إليهم بأحسن وجه: بشكل يؤمن سلامة القوات من العدوى ويعزز ثقة المواطنين فيهم.
ويستدعي الهدف الأول -الأمان من العدوى- تحسيسهم وتدريبهم على الإجراءات الوقائية، علما بصعوبة التقيد ببعضها، مثل: التباعد الاجتماعي الذي يكاد يكون مستحيلا بالنسبة للوحدات والفرق العسكرية داخل ثكناتها وعلى متن المركبات وعلى الميدان.. كما نشير إلى عدم حمل بعض أفرادهم للكمامات- كما أسلفنا- مما يستدعي مزيدا من التحسيس والتثقيف الصحيين بغية تغيير العقليات والسلوك.
أما الهدف الثاني - كسب وتعزيز ثقة المواطنين- فمن أهم مقاييسه في الظروف الراهنة تنفيذ مهمة توزيع المؤن والمساعدات على أصحابها الشرعيين، بشكل شفاف ونظيف. ويمكن اعتبار هذه المهمة من أهم الاختبارات التي يمر بها الجيش خلال هذه الأزمة. ويتوقف نجاحه فيها على أمرين: التنفيذ السليم للمهمة من جهة، ومن جهة ثانية التصدي بفعالية للأنباء الكاذبة (fake news) وعمليات التسميم - بغية تشويه صورته - التي سيتعرض لها لا محالة بهذه المناسبة.
أما مقياس النجاح الثاني والدائم- أيا كانت الأوضاع، فيتمثل طبعا في الالتزام بالنظم والقوانين المعمول بها. وبصورة خاصة، نُذكِّر في هذا المجال بمبدأ واجب التحفظ الذي يحكم السلوك الفردي والجمعي للقوات المسلحة وقوات الأمن وينأى التقيد به باعضائها يعيدا عن نشر الإشاعات الكاذبة أو غير المسؤولة وعن الصراعات والمناورات السياسية والإيديولوجية التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وعلى صعيد آخر، ينبغي أن يستفيد أفراد قوات الدفاع والأمن من إجراءات تحفيزية معتبرة. وقد أصدرت اللجنة الوزارية المكلفة بإدارة ملف أزمة كورونا توصيات بهذا الشأن لصالح العاملين في المجال الصحي وفي المجال الأمني (انظر: " كورونافيروس: قرارات حكومية جديدة (بيان )".
وعملا بها، تم الإعلان من طرف السلطات المختصة عن مبالغ معتبرة تم تخصيصها للعاملين في مجال الصحة. وينبغي الآن أن تنال القوات المسلحة وقوات الأمن بسرعة هي الأخرى نصيبا هاما من أدوات وميكانيسمات التحفيز المالية وغيرها.
وحسب انباء غير رسمية لم نتمكن بعدُ من تأكيدها، فإن تدابير مبشرة تم اتخاذها في هذا السبيل. وإذا كان الخبر صحيحا، فإننا نشيد به ونرى أنه ينبغي تأكيده رسميا وإعلانه عبر القنوات الاعلامية العمومية والخاصة ليطلع عليه الجمهور ويفخر المواطنون والقاطنون في البلد بما تناله أدوات الدفاع الوطنية- التي يعولون عليها- من دعم وتقدير.. وإن كان الأمر على غير ذلك، فنحن ندعو إلى تنفيذ توصية اللجنة القائلة بتحفيز القوات المسلحة وقوات الأمن كما تم العمل بها في قطاع الصحة وأن يعلم بها الناس .. كما أسلفنا.
عقيد ركن متقاعد: البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
المادة 2 (جديدة) من الدستور الموريتاني، فقرة 2: " تُكتسب السلطة السياسية وتُمارس وتُنقل في إطار التداول السلمي وفقا لأحكام هذا الدستور.و تُعتبر الانقلابات وغيرها من أشكال تغيير السلطة المنافي للدستور جرائم لا تقبل التقادم ويُعاقب أصحابها والمتمالؤون معهم سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين بموجب القانون."