في بلاط حضرة السلطان المستزوي (حديث الخيانة العظمى)

جمعة, 07/02/2020 - 21:29

وقف الوزير المفوه و نطق بحكم مسبق على السلطان المخلوع، حكمُ له من وراءه هدف يسعى إلى تحقيقه، يمني النفس بنظرات تقديرفقدت منذ زمن الفتوة، حيث كان يقف سيادته على أديم الحديث المكرر، لم يلقنه أحد إياه، و لم يحدد له الرئيس يوما كيف يتصرف، كان يتصرف من منطلق حنكته و حكمته و أغراضه، صفاء النفس ليس مطلقا أبدا.

حدث الوزير “عن بعد” أرسل رسائل واضحة، أعدكم، سيدي الرئيس، أن أرفسه بقدمي كما رفست بذات القدم مناوئيه الذين كانوا يوما يريدون الوقوف في وجهه. سوف أجعله يعرف أني كنت وراء كل شيء، كنت أخطط و أدبر و أناقش و أصبر على تلك الشوائب و كل ذلك الاذى من ذوي القربى و من المعارف و رفاق الدرب. لم يفهمني أحد يوما، لكن لا بأس، المهم أني أفهم نفسي جيدا، و أنك يا سيدي، تعرف جيدا أنني سأجعله يعود إلى “قمقمه” بشكل فوري و نهائي  و حاسم، و لن يعود أبدا للظهور إلا في أيام المطر ليرى كيف تمطر سماء نواكشوط في عهد زعماء “أزوايه”.

مهمتكم يا سيادة الرئيس أن تخدروا الناس، فلكل مرحلة تكتيكاتها و طرقها، و هذه المرحلة تحتاج فقط للمهادنة و العمل في صمت، أجيجه أقوى من زفرات محركات قطار أسنيم الفالسة، و من محركات طاحنات المعادن و نازعات الشوائب هناك في جبال تيرس، حيث كلب الغين، و هنا في انواكشوط حيث لغة الضاد تعود بألق في مخارج حروف رئيس هو الأول من نوعه في تاريخ موريتانيا على الأقل من حيث اتقان العربية و حسن استخدام عباراتها الجميلة في التنمية و الإقتصاد و مكافحة الفقر و البطالة  و في بناء و ترسيخ دولة المواطنة، مجرد استعارة جميلة من بعض ما يجول في خاطر من يستغلون اللغة في سبيل الوصول إلى المناصب.

البلاط يزهو بقدوم إبن العمة السمح، و صديق الطفولة رجل الظل الذي “يلعب” عفوا “يعمل” في صمت، خبره منذ نعومة أظافره، كتوما بشوشا وهادنا عبقريا جميلا سمحا قريبا صادقا “و لا تحامل في هذه الصفات” و لو أن المسارات فرقت بينهم لكن ذلك الفراق إنما كان ليلتقيا ببعض على بلاط السلطان “وزيرنا” و “صهرنا” و “إبن عمنا” و “صديق طفولتنا”، على طريقة المسلسلات الدينية في عهد ازدهار الدراما المصرية، تلك كانت صفاة المقربين من البلاط و تلك هي صفة المقرب المكلف بأكثر ملفات الدولة سخونة و أقلها مردودية على الإطلاق و أكثرها هشاشة و أكثرها عرضة للتعطيل في أي وقت و في أي مرحلة من مراحله “لجنة التحقيق”.

جلس الرئيس في الوسط، و جلس عن يمينه المفوه، و عن يساره إبن العمة و كاتم السر، “الرجل القوي” على رأي البعض، و جلس الصديق الحميم أبعد من ذلك، أكتملت الجلسة و بدأ المفوه بالحديث فأجاد و أفاد و أضحك و ابهر “و لا تحامل في الصفات”، فنحن قوم نعرف كيف نتحدث بحضرة الملوك، و نعرف كيف نجعلهم ينصتون إلينا، تلك هي بطاقة تعريف “المفوه”، يجب أن يعي الجميع أن التلاعب بالمال العام و التهاون في حمايته “خيانة عظمى”.

لقد أقر المفوه من خلال كلامه ذاك دون وعي منه و دون أن يدرك دلالات و مقاصد ما كتب و هذه أول مرة أكتشف فيها شيئا بهذا القدر من القسوة و اللامبلاة، و بهذا القدر من “الحقد” الغير مقبول شكلا و لا مضمونا و من التحريض على القتل بشكل صريح لم يفكر فيه أحد، لقد قال المفوه أن السلطان المخلوع يجب أن يعدم على مصقلة أو يشنق على عمود كهربائي في وسط ساحة الحرية، ما معنى أن تقول أن التهاون بالمال العام “خيانة عظمى” و ما عقوبة الخيانة العظمى لدى كافة دول العالم و عبر التاريخ سوى الاعدام سوى “القتل”، إذا لم يكن هناك نص صريح في الدستور و القانون الموريتاني يقول بأن التهاون في تسيير المال العام أو التلاعب به “خيانة عظمى” للوطن، فهذا تحريض صريح و تصريح واضح بالرغبة الشديدة في أن يكون مصير السلطان المخلوع بهذا السوء، انتبهوا لذلك جيدا.

تماما كما يجب أن ينتبه الوزراء أن أيامهم معدودة، تماما كما يجب أن تعرف المعارضة أن النهج الجديد لا يعني تقاسم السلطة، “معاذ الله” فصراحة “صاحب لعرب” ستكون أقل إيلاما من كتمان و “أتكربيل” “السلطان المستزوي”، سيعلم الجميع أن النظام لم يتغير و أن وزير الداخلية لم يمل بعد من صولاته و جولاته في استعادة ماضي “الدولة البوليسية” ماضيها السحيق بكل مساوئه، إنه الحنين إلى الماضي الجميل، بمفهوم صاحبنا في منظمة استثمار نهرالسنغال الذي كلفناه بها في عهد المستزوي الأول “على طريقة ولد هيداله “ما خليت أوراي راجل إيكد إيعدل أعليه أنقلاب” و في الأخير 21 عاما من الحكم.

ثم ما لبثت أن اكتملت الجسلة بمعاليه، قامة فارعة لا فارغة و بشاشة لا تثير الغرابة ممن معدنه “ذاك”، و حجارة شركة إعادة تعمير الطينطان كأنها تهوي من جبال لعيون لتسقط كلما خطا معاليه خطوة نحو القوم، و صفير الرياح تضرب الصفيح و هو يتقلب بجرافات معاليه بوجه حق و بغير وجه حق، أقدامه تضرب في بلاط السلطان، تماما كما تضرب أقدام الحرس التراب كأنها في قلوب الضعفاء المهجرين وقتئذ.

جلس بالقرب من سيادته، أفسح له كاتم السر على مضض مكانا فهو يعرف أنه لا مكان له بين ابن العمة و صديق الطفولة و المفوه، إذا هو جلس على حافة المجلس و لن ترضى المشيخة بذلك و هي تراقب من بعيد كيف يتصرف ابنها الغالي.

طبعا إنتهى الوقت المخصص للتصوير بعدسات العقل المرجح لما يجري في البلاط، فكل حديث له سبب، و كل تعيين له سبب، و كل جلسة لها نتائج تبرز إلى المتلقي، فمنا من يتلقى بأذن واعية مبصرة للحقائق و ما وراء الاحداث، و منا من لا يتلقى أصلا بل يستقبل بقلب خاشع لك “سيدي” خاش.

صفدت “شياطين” الكتاب عما يجري في بلاط السلطان، و لم يبقى شيء يمكن أن يكتب بعد هذه السطورسوى أننا في عهد السلطان المستزوي، و لن يكون بين يدينا من انجازات سوى بناء المريديات بدل المديريات و الصوامع بدل العواصم و الكلام الجميل الذي تسخر به أمهات كتب الحالمين و أصحاب المشاعر الجياشة ملؤه الأيمان و الوعود و “الاماني”، لتبقى أحلام الشعب مؤجلة ما شاء الله لا قوة إلا بالله، تبارك الله و لا مرد لقضاء الله، و لله الأمر من قبل و من بعد. و أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم و إلى أن يضمنا لقاء جديد، اللهم لا كان هذا آخر عهد بيننا، افترقنا على قول لا إله إلا الله. و ليبلغ الشاهد الغائب.

محمد فاضل الهادي