إن الحكاية مع السلطة غالبا ما تكون حكاية صعود سريع وهبوط أسرع، وقد تدخل من الباب الواسع وتخرج من النافذة أو من الباب الخلفي.
الأكيد هو أننا بارعون في صناعة الدكتاتور وبارعون كذلك في التخلي عنه.
وفي حال أقام مأدبة عشاء في هذا الظرف فلن يحضرها حتى حواريوه.
لقد دخل هؤلاء السياسيون على ظهر مصالحهم وخرجوا على وقع معركة المرجعية التي تريد شطب الإعلان السياسي للحزب، والمتمثل في مرجعية مشروع ولد عبد العزيز، والتخلص منه لأن ذلك الإعلان ليس صحيفة قريش حتى ينتظر أن تأكلها الأرضة.
فالحياة السياسية مستمرة ودينامكية وتتطلب التجديد في الشخوص والأفكار، والمبادرات والاستراتيجيات.
أول من تخلى عن ولد عبد العزيز هو سائقه الذي أوصله لمقر الحزب في ليلة الاجتماع الأخير، الوزير ولد عبد الفتاح الذي ذهب لتقديم فروض الولاء والطاعة والاعتذار عن حضوره للاجتماع الذي أوصل له ولد عبد العزيز في سيارته الخاصة وغادر به بعد انتهاء الاجتماع فجرا على مرأى من الجميع.
لكنه قدم الاعتذار عن تضامنه مع ولي نعتمه.
وكذلك فعل “الملتحي” ولد محمد خونا الذي طلب صكا للغفران من خطيئته السياسية تلك.
لقد بدا أن الحراك ضد مرجعية الرئيس السابق للحزب تم تأطيره من أبرز قادة المؤسسة العسكرية البارزين في مستوى معين، والذراع السياسي المتثمل في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وأبرز نواب الأغلبية ولد حننا، وولد الزامل وولد بناهي منت اعمر شين، وحمادي ولد اميمو الذي ربما وجدها فرصة لإعادة الإعتبار، وكيل الصاع صاعين للرئيس السابق الذي أقاله بعد توجيه عبارات قاسية أمام زملائه من أعضاء الحكومة بخصوص “طرنيشة سفارة أديس ابابا”، لكنه أهلك نعليه لاحقا في الدعاية لمشاريع ولد عبد العزيز في حملة التعديلات الدستورية وقال ولد اميمو مقولته الشهيرة عندما استغرب أحد جلساءه تفانيه في حملة رئيس اقاله بطريقة استفزازية منذ شهرين:”أنا ما نجري لولد عبد العزيز أنا نجري لراصي” هكذا هم السياسيون.
الغريب في الأمر أن غالبية الكتيبة البرلمانية التي اثارت الشغب على الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله، وقعت على عريضة لشطب مرجعية ولد عبد العزيز، باستثناء محمد يحي ولد الخرشي الذي لم يوقع لأسباب اجتماعية، وسيد أحمد ولد احمد الغير موجود في البرلمان، وسيدي محمد ولد محم الذي استقال بعض أن دخلت مفتشية الدولة مخدعه، ووقف متفرجا على “ملهمه” الذي سبق وأن غرد على تويتر بأنه الزعيم السياسي الأكثر شعبية في البلاد !
لقد تخلت عن ولد عبد العزيز أبرز شخصيات العمل السياسي الماضي المتمثلة في رابطة النواب السابقين التي تضم سياسيين مخضرمين من منظري الأنظمة الحاكمة، اللذين يغيرون جلودهم مع كل رئيس جديد، بالولاء الفلكلوري ويملئون الساحات وقصور المؤتمرات بالدعوة للمأمورية الثالثة، واستبقى يحي ولد حدمين المتخم بالصراعات والعداوات، وبيجل ولد هميد في آخر مشواره البرلماني كالأسد العجوز الذي يسمع زئيره في الصحف والمجلات لكنه لا يستطيع افتراس طرائده.
وسائقه “المخلص” محمد ولد عبد الفتاح الذي يمكن أن يفيده لاحقا في الحسابات وإعداد الفواتير، وعالي ولد الدولة الذي “حصن” نفسه بالاتفاقيات والصقفات التجارية طويلة الأمد التي منحت له في عهد الرئيس المخلوع من الحزب، بعد أن صعد بشكل صاروخي في عالم الأعمال والسياسة ودخل البرلمان على عربة مذهبة، للحصول على حصانة لحساباته البنكية وصفقاته المتعددة، وسيدنا عالي ولد محمد خونا الوزير الذي أعلن انه سينتقم من المعارضة وظيفيا تفانيا في حب موالاة ولد عبد العزير، والمختار ولد اجاي الذي تخلى عنه إبن خالته رئيس المجلس الجهوي بلبراكنه، و منتخبو المكطع المحسوبون عليه في لحظة “نفسي نفسي” ووقعوا على عريضة ترفض هيمنة الرئيس السابق على حزب الحصان.
كما ظهرت مؤخرا أسماء “أقرباء من غير نسب” لولد عبد العزيز موقعين ضمن رؤساء المجالس الجهوية على إزاحته من بينهم سِّلْفُه يحي ولد عبد القهار.
هذه الحقيقة لا تنسحب على المجتمع السياسي لوحده، وإنما مجتمع المال والأعمال الذي فرض النظام السابق على فاعليه جزية معلومة للحزب والأنشطة السياسية، وكانوا يقدمونها وهم يضحكون، وما كادت تجف قدماه من رذاذ حديقة القصر حتى انتقدوه ووصفوا فترة حكمه بجميع الألوان القاتمة، بعد أن كانت في أعينهم كقوس قزح.
رغم الحديث عن مراكمته لثروة قارونية وزعها على مقربين منه وكتبها باسمائهم حتى لا تثير شهبة، إلا أن جميع السياسيين كانو شركاء في ذلك بالتصفيق له بحرارة ودعوته للبقاء.
هكذا قضى الرئيس السابق عشر سنين يشيد ولاء من ورق، فهل سيتفرغ ولد عبد العزيز لكتابة مذكراته بالإنجليزية؟
ويترك النظام القائم يسير نحو مناخ التهدئة، وتطبيع الحياة السياسة، مع الاعتراف له بكل ما قدم من إنجازات للبلاد، وما أخفق به.
مشاهد التاريخ والسياسة متشابهة بكل حال في العالم كله، لأن الواقفين على مسرح الحياة اناس يصطفون حسب ما يقتضيه الظرف، هكذا ردد الفنان المصري الراحل “حمدي غيث” وهو يتقمص دور “ريتشارد قلب الأسد” في الفيلم الأشهر “الناصر صلاح الدين” مقولة ريتشارد قلب الأسد أن حلفائه تخلوا عنه حتى اقرب مستشاريه الدوق آرثر، وعندما اكتشف خيانته بعد أن عفا عنه صلاح الدين قال مقولته الشهيرة ” كل حلفائك خانوك يا رتشارد حتى آرثر المخلص”.
وقد رفض صلاح الدين نصرا مكللا بالعار عندما عرض عليه حاكم عكا وملك فرنسا التراجع في نصف المعركة ، فسمح لريتشارد بالمغادرة في سفنه مهزوما، لكنه تفاجئ بعد عودته لانجلترا بأن ابن اخيه قد نظم انقلابا عليه بعد رجوعه للحكم، لأن عودته بكل صراحة -ورغم اختلاف الروايات التاريخية- لم تكن مطروحة بهذا الشكل.