
في مفارقة تكاد تُلخّص مأساة الدولة الريعية، يطلّ الوزير الأول المختار ولد أنجاي اليوم بصفته “رجل النظام الصارم” الذي لا يرحم، معلنًا حربه المفتوحة على فئات هي في الأصل الأكثر هشاشة في المجتمع: أصحاب الدخل المحدود، المهن الصغيرة، والموظفون العقدويون الذين يشكّلون أحد أعمدة المرافق العمومية.
لكن المفارقة الأشد مرارة، أن ولد أنجاي نفسه لم يدخل الإدارة عبر مسابقة ولا عبر مسار مهني واضح؛ بل دخلها متعاقدًا، تمامًا مثل أولئك الذين يقطع اليوم أرزاقهم بقرارات لا تراعي تأثيرها الاجتماعي ولا الاقتصادي.
● من العقدوية إلى قصر الوزير الأول… ثم الدوران ضد الذات
تاريخ الرجل المهني معروف:
بدأ عقدويًا، واستفاد من فرصة فتحت له أبواب الوظيفة، ثم تدرّج حتى أصبح رأس الجهاز التنفيذي. غير أن المفارقة الصارخة أنه ما إن صعد إلى موقع القرار حتى بدأ في هدم السلم الذي صعد عليه، وكأنه يريد أن يمحو كل أثر لمرحلته السابقة، أو أن يقدم نفسه للنظام باعتباره “مهندس الانضباط” حتى لو كان ثمن ذلك سحق الفئات الهشة.
هذا السلوك ليس مجرد خلل إداري… بل انتهازية كاملة الملامح.
● ضرائب مجحفة على الفقراء… وامتيازات مفتوحة للأغنياء
قبل ملف العقدويين، كان ولد أنجاي قد فتح حربًا واسعة على أصحاب المهن البسيطة:
العمال، الحرفيون، التجار الصغار، سائقي التاكسي…
من خلال ضرائب متزايدة بلا دراسة ولا تدرج ولا عدالة.
المفارقة أن هذه الضرائب لم تطل الشركات الكبيرة، ولم تؤثر في أصحاب النفوذ، بل كانت موجّهة بدقة نحو جيوب الفقراء، الذين صاروا يدفعون ثمن العجز الحكومي عن خلق مصادر حقيقية لزيادة الإيرادات.
فبدل إصلاح المنظومة الضريبية من الأعلى… قرّر أن يضغط على الأسفل، حيث لا صوت ولا نفوذ.
● قطع أرزاق آلاف المتعاقدين… ضربة موجعة للطبقة الأضعف
واليوم، تمتد يد الوزير الأول إلى آلاف المتعاقدين في الوزارات والمؤسسات التعليمية والصحية والخدمية. قرار واحد يكفي لقطع أرزاق أسر كاملة، تعتمد اعتمادًا كليًا على تلك العقود الهشة أصلاً، والتي لا توفر لهم تأمينًا ولا ضمانًا اجتماعيًا ولا راتبًا مستقرًا.
قرار يمكن وصفه بأنه:
- قاسٍ لأن المتضررين هم الفئة الأكثر هشاشة.
- غير عادل لأن صاحبه نفسه بدأ عقدويًا.
- غير مدروس لأنه يهدم استقرارالاف الأسر ▪︎يشل حركة العمل والانتاجية في المستشفيات وإلإدارات التي تعتمد عمليًا على هؤلاء المتعاقدين.
والأخطر من ذلك، أنه يعمّق الإحساس بالظلم الاجتماعي وانعدام الأفق لدى آلاف الشباب.
● ولد أنجاي… من ينسى البدايات يخون الناس
في كل الدول المحترمة، يكون صعود الشخص من الهامش إلى القمة مدعاة لتعاطف أكبر مع المهمشين.
لكن في الحالة الموريتانية، يثبت ولد أنجاي أن الوصول إلى السلطة قد يتحوّل إلى قطيعة مع الماضي بدل أن يكون درسًا منه.
إنه درسٌ مرّ:
حين ينسى المسؤول بداياته، يصبح أشد قسوة على الناس من أولئك الذين وُلِدوا في القمة.
● حرب ضد الفقراء وليست إصلاحًا
القرارات التي يتخذها ولد أنجاي لا تُقرأ في سياق الإصلاح الإداري ولا ترشيد النفقات، بقدر ما تُقرأ في سياق بحث عن القوة وفرض النفوذ على أضعف الفئات، بدل مواجهة مراكز القوة الحقيقية.
إن محاربة العقدويين والفقراء بالضرائب المجحفة ليست إنجازًا…
بل هي إعلان صريح عن سياسة ترى في الضعفاء الحلقة الأسهل لكسرها.
وما لم تتدارك الحكومة هذا المسار، فإن الأزمة الاجتماعية ستتعمق، والثقة بينها وبين المواطنين ستزداد هشاشة.
وكالة الإتحاد
