مجتمع البظان: بين التقاليد العميقة… ومعاداة الدولة والحداثة

ثلاثاء, 02/12/2025 - 10:43

الراصد : في قلب الصحراء الممتدة من جنوب المغرب إلى شمال السنغال مرورًا بموريتانيا ومالي والجزائر، يعيش مجتمع البظان؛ مجتمع لا يشبه غيره، ولا يريد أن يشبه غيره. مجتمعٌ يأبى مغادرة خيمته الرمزية مهما اقتربت منه الدولة، ويتعامل مع قرون الحداثة كما لو كانت ضيفًا ثقيلاً يحاول اقتحام مضارب القبيلة.

هذا المجتمع، الناطق بالحسانية، ليس مجرد تركيبة سكانية عابرة، بل حالة ثقافية وسياسية واجتماعية حيّرت الباحثين في تاريخ المنطقة. فالبظان ظلّوا – رغم كل التحولات – متمسكين بنظام اجتماعي ذاتي يسبق الدولة الحديثة، ويُدار بمنطق خاص لا يخضع بالكامل لهيمنة المركز.

وموريتانيا – باعتبارها مركز الثقل التاريخي والجغرافي – هي النموذج الأوضح لهذه المفارقة:

مجتمع واسع، موحّد لغويًا وثقافيًا… لكنه مُعاندٌ شرس لإجراءات الدمج السياسي والاقتصادي التي تقوم عليها الدولة الحديثة.

■ من الأسرة الضيقة إلى القبيلة الواسعة: دولة داخل الدولة

لا يُفهم البظان إلا من خلال بنية القبيلة. فالانتماء الأسري والقبلي هو بطاقة الهوية الحقيقية، وهو جواز المرور في مجتمع يُحكم بالشرف والقرابة قبل القانون والدستور.

القبيلة هنا ليست مجرد رابطة اجتماعية؛ إنها نظام حكم مصغّر:

  • مشائخ لإدارة النزاعات،
  • أعيان للتحكيم،
  • زعماء يتحكمون في الموارد،
  • ورجال دين يمنحون الشرعية.

الدولة الموريتانية – في كثير من المناطق – لا تمارس كامل سلطتها، لأن سلطة القبيلة تُعدّ أكثر حضورًا وتأثيرًا.
حتى اليوم، ما زالت النزاعات تُحل وفق الأعراف، وليس وفق القوانين الرسمية.

وكما قال أحد الباحثين بنبرة لا تخلو من الانبهار والانتقاد:

“البظان يديرون مجتمعهم وفق دستور غير مكتوب، لا تحتاج الدولة فيه إلا للحضور الشكلي.”

■ الدين: سلطة روحية… وباب لإغلاق المجتمع

في مجتمع البظان، الدين ليس ممارسة فردية، بل ركيزة سلطة.
رجال الدين – كما وصفهم بول مارتي في أوائل القرن العشرين – هم القضاة الفعليون، وهم ضامنو الاستقرار، وحَمَلة الشرعية. أي نزاع بين أسر أو قبائل غالبًا ما يُرفع إليهم لا إلى المحاكم.

وهذا الدور جعل المجتمع أكثر انغلاقًا وأشد تمسّكًا بماضيه. فالمرجعيات الدينية التقليدية غالبًا ما تُقدَّم على أي خطاب إصلاحي أو تحديثي، ما يُعقّد مهمة الدولة في تعميم التعليم، أو فرض قانون مدني موحد، أو تفكيك الولاءات القبلية.

■ الاقتصاد التقليدي: استقلالٌ مُكلِف

ظلّ الاقتصاد البظاني قائمًا على الرعي والتجارة البسيطة، ما منح المجتمع استقلالية قوية، لكنه تركه في عزلة أيضًا.
فغياب النشاط الإنتاجي الحديث جعل مستويات التنمية ضعيفة، والتعليم غير متجذر، والبنية التحتية هامشية.

إنه اقتصاد حرّ في شكله…
لكنّه مقيد بالعرف والتقليد من الداخل.

والنتيجة:

  • دولة عاجزة عن دمج المجتمع،
  • ومجتمع عاجز عن مجاراة العصر،
  • وكلاهما يدور في حلقة من الشك المتبادل.

■ طبقات المجتمع: هرم صارم لا يتغير

البنية الاجتماعية لدى البظان ليست مجرد طبقات، بل تراتبية مغلقة تتحرك ببطء شديد:

● النخبة الدينية (الزوايا والأشراف)

يمتلكون المعرفة، الشرعية، المدارس التقليدية، ويحكمون المجتمع روحيًا.

● القبائل العربية المحاربة

تستمد نفوذها من السلاح والجاه، لكنها تمتلك أيضًا “نخبًا دينية” محدودة.

● الرعاة والفلاحون

عماد الاقتصاد التقليدي، وطبقة وسطى لكنها تابعة في القرار.

● الصناع والفنانون

من يُشكّلون الذاكرة الثقافية والغنائية، لكنهم يقعون في أسفل السلم الاجتماعي من حيث النفوذ.

● الطبقات الدنيا (العبيد سابقًا)

رغم تحررهم قانونيًا، ما تزال آثار المكانة القديمة تفرض حدودها في الزواج والمكانة والفرص.

ورغم صعود المال والتعليم في العصر الحديث، فإن هذا الهرم لا يزال حاضرًا بقوة.

■ الدولة والقبيلة: صراع ظلّ مستمر

لم تستطع فرنسا خلال حقبتها الاستعمارية إخضاع المجتمع لإدارتها المركزية.
واليوم تواجه الدولة الموريتانية المعركة ذاتها:

  • الولاء القبلي أقوى من الولاء الوطني،
  • الأعراف أقوى من القانون،
  • المشائخ أقوى من الإدارة المحلية.

في مناطق كثيرة، الدولة ضيف… والقبيلة هي المضيف!

■ هل البظان ضحية التخلف… أم حراسه؟

هنا تنقسم النظرة النقدية إلى مسارين:

● المسار الأول: البظان مجتمع أسير للماضي

يرى منتقدون أن تمسّك البظان ببعض التقاليد وبفهم ضيق للدين جعل المجتمع يقف ضد التحديث، وضد قيم المواطنة، وبعيدًا عن التعليم والاقتصاد العصري.
وكأن المجتمع يحتمي بماضيه خوفًا من مستقبل لا يفهمه.

● المسار الثاني: البظان مجتمع ذكيّ قادر على التكيّف

لدى آخرين، التقاليد ليست عائقًا بل نظام دفاع اجتماعي مكّن المجتمع من البقاء في منطقة مضطربة سياسيًا عبر القرون.

■ خلاصة: مجتمع في معركة مستمرة مع الزمن

يعيش البظان اليوم على حافة سؤال صعب:
كيف يمكن لمجتمع عميق في تاريخه وأعرافه أن يندمج في دولة حديثة،
بينما هو ما يزال يرى الحداثة تهديدًا لهويته؟

إن تجربة البظان ليست فقط قصة صراع بين الماضي والحاضر،
بل هي مرآة لكل المجتمعات العربية والإفريقية التي تبحث عن التوازن بين الأصالة والدولة الوطنية، بين الروحانية والتنمية، بين القبيلة والنظام.

وموريتانيا – أكثر من غيرها – تدفع ثمن هذا الصراع يوميًا:
تخلفٌ تنموي، هشاشة مؤسسات، وهيمنة قبلية تلتهم الدولة من الداخل.

ومع ذلك… يبقى هذا المجتمع بفرادته وغموضه مفتاحًا لفهم تاريخ المنطقة ومستقبلها،
ومادة لا تنضب للبحث… والجدل… والإصلاح المؤجل.