مقاومة الرقمنة / . الهيبه الشيخ سيداتي

سبت, 08/03/2025 - 05:22

الراصد: منذ ست سنوات استحدثت موريتانيا قطاعا وزاريا مكلفا بالرقمنة، تفاوتت أولولويات الوزراء الذين تعاقبوا عليه من توفير البنية التحتية الرقمية، من كوابل بحرية بديلة وتوسيع نطاق الشبكات، إلى "حكومة من دون أوراق" ورقمنة جميع الخدمات والوثائق. 

ورغم الفوائد الواضحة للمنجز المحدود من رقمنة بعض الخدمات  وربط بعض الإجراءات المالية بالتطبيقات المصرفية، إلا أن نسبة الإنجاز ما تزال محدودة جدا بالقياس إلى الأهداف المعلنة والوعود التي تم إطلاقها، رغم أن عملية الرقمنة لا تتطلب جهدا فنيا استثنائيا كما أن صياغة أطرها التنظيمية والقانونية لم تعد تطرح صعوبات كبيرة بسبب التجارب الناجحة في أكثر من بلد. 

المشكلة الأساسية التي يواجهها هذا المسار تتمثل في  مقاومة داخل جهاز الدولة تقودها ثلاث قوى ترى في الرقمنة تهديدا لبقائها وتحكمها، بما تعنيه الرقمنة من نهاية أساليب تقليدية في العمل تشكل بطبيعتها أساسا لممارسات الزبونية والمحسوبية وذريعة لتعطيل مصالح المواطنين والتمييز بينهم على أساس وضعياتهم المهنية والاجتماعية وعلاقاتهم الشخصية.

هذه القوى الثلاث هي:

- إدارة تقليدية مردت على البيروقراطية وعلى اعتبار مكانة المسؤول قبل صورة المؤسسة ومصلحة المواطن؛ إدارة تعتبر أن التباطؤ في التعامل مع الطلبات وتسوية المشاكل وغموض مسار معالجتها، جزء من هيبة "وهمية" للمسؤول ومظهرا من مظاهر جسامة مهامه ومستوى انشغاله، حتى لو كان الأمر لا يعدو تاشرة روتينية لإحالة ملف إلى جهة مختصة. وتوجد ضمن هذه الإدارة فئة تسللت إلى جسم الدولة عبر طرق ملتوية ودون كبير كفاءة،  ولا شغل لها إلا التشكيك في عملية الرقمنة ووضع المتاريس في طريق إتمامها، بذرائع مختلفة تتعلق أحيانا بمخاطرها على الأمن، وأحيانا بحجة ضعف بنيتها التحتية،  وأحيانا بحجج قانونية وعملية واهية. والحقيقة أن هؤلاء يعتبرون المعدات والبرامج الرقمية منافسا لهم، ليس فقط من خلال سحب نفوذ بنوه خارج القانون بل أيضا لأن بعضهم، ممن لم يكن له اهتمام بالتقنيات الحديثة، يرى أن الرقمنة ستضعه  أمام خيارين: إما الاستغناء عن خدماته لعجزه عن مواكبة التحول الرقمي، أو أن يبتلع كبرياءه ويعترف بقصوره ويبدأ في التعلم. هذه الفئة منتشرة في مختلف قطاعات الإدارة الإقليمية والأجهزة الحساسة وغالبية القطاعات الخدمية كالتعليم والصحة. 

- ⁠الفئة الثانية هي المفسدون الذين يرون في شفافية الإجراءات الرقمية، وعدم القدرة على التحكم في مسارها، وسهولة رصد وتتبع عمليات التلاعب والغش فيها، عائقا أمام ممارسات الفساد وخطرا على مصالح فاسدة راكموها طيلة مساراتهم المهنية. وهذه الفئة هي الأخطر في محاربة الرقمنة، لأنها لا تعدم كفاءة عكس الأولى وتنتقد الإجراءات الرقمية من زاوية فنية ظاهرها الحرص على سلامة الإجراءات وأمان المعاملات،  وباطنها  التصدي لكل ما من شأنه أن يضيف مزيدا من الشفافية ويلغي منظومة الإجراءات القابلة للاستخدام في الفساد. ومن أخطر أساليب هذه الفئة المحترفة جدا تتبع ثغرات التطبيقات وتضخيمها وإظهار أنها خطيرة ومعيقة ومربكة، وأن الجميع يرفضها؛ كما تملك هذه الفئة بنفوذها وعلاقاتها المتشعبة القدرة على تعبئة الفئتين الأخريين، فضلا عن وسائل الإعلام والرأي العام، ضد التحول الرقمي.  

- ⁠الفئة الثالثة هي المتحايلون في قطاع المال والأعمال والمهن الحرة، الذين يجدون في التحول الرقمي خطرا على ممارسات التهرب من الضرائب والتلاعب في القطاع العقاري، فيرفضون التسديد عبر التطبيقات ويقتطعون الضرائب باسم الدولة من المواطن في عمليات التوثيق وغيرها من الخدمات الوسيطة دون تسديدها لخزينة الدولة. وفي هذا الإطار، اطّلعت قبل أسابيع على رسالة من وزارة العقارات، نشرتها الأخبار، تطالب البنك المركزي بإلزام البنوك بتسجيل ما لديهم من رهن عقاري رقميا عند مصالح الوزارة،  وهو ما يواجه مقاومة قوية لأن بعض الموثقين والبنوك لا يرغبون في ذلك، بسبب اقتطاع وعدم تسديد نسبة الدولة من هذه الرهون بالنسبة لبعض الموثقين، وبسبب ازدواجية الرهن العقاري بالنسبة لبعض البنوك. 

هذه الفئات الثلاث تتخادم فيما بينها، ويخدمها صراع، ربما لها دور في إذكائه، بين مهندسي المعلوماتية الذين  بات بعضهم يعمل ضمن مجموعات متعارضة المصالح يشن كل فريق منها الحرب على عمل الفريق الآخر ويعد التقارير عن أخطائه الفنية ويضخم ثغرات عمله والمخاطر التي قد تترتب عليها. والحصيلة هي زرع الشك في مجمل مسار التحول الرقمي وبث التوجس من نتائجه وتأثيراته.

هذه المقاومة والتجاذب جعلا القطاع هو الأكثر تغييرا في وزرائه، لما تقتضيه مصالح تلك الأطراف من تعطيل استيراتيجيات عمل القطاع وتغييرها كل مرة، حتى تعود الأمور إلى نقطة الصفر ويظل العمل يدور داخل نفس الدوامة التي لا تخدم سوى مصالح فئات محدودة  فاسدة أو فاشلة.

 لا شك أن رفع مستوى وعي المواطن بأهمية التحول الرقمي وحتميته لمواكبة العالم من حولنا، سيكون له تأثير حاسم في وضع حد لهذا التجاذب العبثي. ولعل من المهم لتنمية هذا الوعي إنجاز دراسة فنية حول تجربة رقمنة إجراءات الحصول على الوثائق المدنية وتسديد فواتير الماء والكهرباء عبر التطبيقات المصرفية، ومدى ما وفرته هذه التجربة من وقت ومال للمواطن.