الراصد : في كتابه الجديد الذي أثار جدلًا واسعًا “هزيمة الغرب”، يذهب عالم الاجتماع الفرنسي أمانويل تود إلى أن الديمقراطية الليبرالية قد تحولت في السنوات الأخيرة من نمط الاستحقاق إلى نمط النخبوية المغلقة .
في هذا السياق، يركز تود على النموذج الأمريكي، ملاحظًا أن الولايات المتحدة قد تبنت بعد الحرب العالمية الثانية مثال الاستحقاق الفردي. وهكذا؛ فتحت آفاق التعليم العالي للطبقات والمجموعات التي كانت مقصية منه، في إطار محاربة الأيديولوجيا الشيوعية ووفقًا لمتطلبات الثورة العلمية الجديدة.
إلا أن هذا المسار قد انتهى في السنوات الأخيرة، إذ نلحظ ما ينعته تود بتحلل الديمقراطية الأمريكية، ونهاية نظام الاستحقاق والانتقال إلى نوع من الأوليغارشية المغلقة.
سدت آفاق الحراك الاجتماعي والصعود المهني، ومعها انتكست المنظومة الديمقراطية بالكامل ولم يعد ثمة فرق بين هذه التسلطية النخبوية الليبرالية والاستبداد الروسي .
وإذا كانت الأوليغارشيات القديمة في أثينا وروما فعالة وناجعة، فإن الأوليغارشيات الليبرالية الراهنة لا تبدو قادرة على ضبط المجتمعات التي تنخرها التعددية والاختلاف .
قبل ثلاث سنوات، أصدر الفيلسوف الأمريكي مايكل صاندل كتابًا مثيرًا بعنوان “استبدادية الاستحقاق”، ذهب فيه إلى أن سيادة ثقافة الاستحقاق بدلًا من أن تؤدي إلى دفع العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين، أفضت إلى تهميش وإقصاء قطاعات واسعة من المجتمع هي الطبقات المنتجة والعملية التي خرجت من دوائر الاعتراف السياسي والقانوني.
وهكذا كانت أيديولوجيا الاستحقاق من نتاج المستفيدين من حركية العولمة، لتبرير وتمويه أصناف التفاوت والقمع غير الظاهرين علنًا، بما يفسر موجة الاحتجاج الشعبوي العارم ضد النخب المسيطرة وتنامي المطالب الهوياتية الخصوصية.
الخلاصة التي ينتهي إليها صاندل هي أن نظام الاستحقاق يتعارض مع مبدأ الخير المشترك وما يتأسس عليه من معايير التضامن الاجتماعي، وهو المبدأ الذي ترتكز عليه مقولة الديمقراطية ذاتها .
ما تعبر عنه ملاحظات تود وصاندل هو أن الممارسة الليبرالية للفكرة الديمقراطية تعاني من اختلال أصلي يرجع إلى الهوة السحيقة القائمة بين مثال المساواة الذي هو القاعدة المعيارية للديمقراطية والنظام السياسي للحرية الفردية الذي يكرس حتمًا أصنافًا خطيرة من التفاوت وانعدام العدالة الاجتماعية.
لم تكن فكرة المساواة في منطلقها مقولة ليبرالية، بل إن التيارات الثورية الراديكالية والنزعات الشيوعية المثالية التي سادت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اعتبرت أن المساواة الحقيقية لا تتم إلا من خلال الانتفاضة الشاملة التي تعيد بناء المجتمعات على أسس توافقية تشاركية، أو من خلال عملية التغيير العنيف والقهري لحمل الناس على التقاسم العادل للخيرات المادية والحقوقية.
لم تكن أطروحة التناسق الفكري والمعياري بين مثالي الحرية والمساواة حاضرة في الفكر الليبرالي الغربي الكلاسيكي، بل إن المعضلة التي واجهها روسو ومونتسكيو وفلاسفة الأنوار إجمالًا تمثلت في كون الرهان على الاختيار الفردي لنظام اجتماعي يتمتع بالمساواة والعدالة رهانًا خاسرًا.
صحيح أن الفكرة الديمقراطية تتضمن في خلفياتها العميقة مسلمة المساواة الحقوقية بين الأفراد، إلا أنها تعتبر التفاوت الاجتماعي شرطها العملي، ما دامت تقوم على آليات التمثيل والانتخاب التي هي أدوات ضبط الصراع المدني المحتدم في الواقع الاجتماعي.
مبدأ الليبرالية هو مثال الاستحقاق الذي يتأسس على منطلقين هما: فهم الحرية من منظور الإرادة التنافسية غير المقيدة، واعتبار التفاوت الناتج عن التنافس الموضوعي والشفاف مشروعًا وعادلًا. المساواة بهذا المعنى محصورة في تساوي الفرص الأصلية بين المتسابقين، ولا صلة لها بتوزيع الناتج الاجتماعي النهائي.
المشكل في هذا التصور هو افتراض إطار اجتماعي أصلي متساوٍ تنطلق منه الحركية التنافسية، بما يظهر في العديد من الفرضيات التي اعتمدها المفكرون الليبراليون من “حالة الطبيعة” لدى هوبز وروسو، إلى “الوضعية الأصلية خلف قناع الجهل” لدى جون رولز.
والواقع أن هذه الفرضية هي مجرد حالة أسطورية غير واقعية، فالأفراد ينشأون ويتطورون في نظم اجتماعية لها أنساقها الطبقية والتراتبية التي لا يمكن تجاهلها وعدم إدراكها موضوعيًا. ومن ثم فإن الحرية بمفهومها العملي الإجرائي لا تكون إلا ضمن منظومة اجتماعية شاملة، أي ما سمته الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حنة أرندت بالعالم المشترك الذي هو سياق نشاط وفعل الأفراد.
لتصحيح نظرية الاستحقاق الليبرالي، اعترف الفيلسوف الأمريكي جون رولز أن فرضية التساوي الأصلي مجرد وهم زائف، ذلك أن الأفراد يختلفون من حيث مؤهلاتهم وكفاءاتهم ومساراتهم المهنية والوظيفية، ولذا لا يمكن الاكتفاء بهذه الفرضية لبناء نظام اجتماعي عادل .
ومن هنا بلور المبدأ الثاني من مبادئ العدالة الذي عرف بمبدأ الاختلاف، والغرض منه هو تصحيح الاختلالات الناتجة عن ديناميكية الاستحقاق من خلال إجراءات تضامنية تكفل دمج المحرومين ومواجهة أنماط التفاوت المنجرة عن الحركة الحقوقية المجردة للنظام الليبرالي.
ومع أن المنظومة الاشتراكية انهارت بالكامل، وانتصرت ليبرالية الاستحقاق على نطاق واسع في العالم، إلا أن مطالب العدالة تفجرت وتزايدت في ثوب جديد هو شعار الاعتراف في مجتمعات متنوعة، مشتتة لم تعد تحكمها مقاييس كونية صورية بل غدا لكل مكون من مكوناتها طموح إلى التفرد والتميز وفق معايير حقوقية خاصة به .
في هذه الحالة الاجتماعية الجديدة، أصبح ينظر إلى الديمقراطية التمثيلية الانتخابية بأنها تحمي هيمنة وتسلط نخبة قليلة متحكمة في كل مواقف السلطة والقرار، وذلك ما أطلق عليه تود العودة إلى الأوليغارشية المغلقة.
وفي المقابل، تذهب النزعات الشعبوية الصاعدة إلى افتكاك الصوت الانتخابي لفرض إرادة القوى المقصية والمغيبة في مواجهة “ديكتاتورية النخبة”، بما ينجر عنه ضرورة تغير وظيفة الديمقراطية من عامل الاستقرار السياسي والاجتماعي إلى عامل العنف والاحتقان.
سمعنا مؤخرًا الرئيس الأمريكي بايدن يقول إنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة ستشهد انتقالًا آمنًا للسلطة في حال نجاح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات القادمة. ما يعنيه هذا التصريح هو أن الأفق الديمقراطي لم يعد حافزًا على الأمن والشرعية في أكبر المجتمعات الليبرالية وأكثرها استقرارًا وتطورًا.