الراصد: هذا العنوان مستوحى من كتاب المفكر السياسي الألماني-الأمريكي “يوشع مونك” الذي أصدر منذ سنوات قليلة كتابًا هامًا بنفس العنوان.
في هذا الكتاب، يبين مونك أن الديمقراطية الليبرالية تبدو للكثير بصفتها المحطة النهائية من التطور السياسي الحديث، والحالة الضامنة للحريات والعدالة. وقد تركزت هذه الصورة بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك المعسكر الشرقي الاشتراكي، وشاع الاعتقاد أوانها أن الاستثناءات القليلة في العالم مثل الصين الشيوعية ستنتهي إلى السير في نفس الطريق.
بعد فكرة “الانتقال الديمقراطي” التي سادت أوانها بما تعنيه من التحول من النظم التسلطية الاستبدادية إلى الحكومات المنتخبة، برزت أطروحة “توطيد الديمقراطية” التي تحيل إلى الاستقرار المؤسسي والتداول السلمي على السلطة من خلال شروط موضوعية في مقدمتها: التنمية الاقتصادية والاجتماعية الناجعة، والاندماج الأهلي الثابت، والبيئة الاستراتيجية الملائمة، وغيرها.
وقد نظر إلى وضع الديمقراطيات الليبرالية في الغرب على أنه مثال ملموس على التقدم والرفاهية، باعتبار أن النظم التي اعتمدت الحريات العامة والانتخابات التعددية نجحت في مسارات التنمية، والاستقرار الداخلي والرقي الاجتماعي.
بيد أن السنوات الأخيرة كما لاحظ مونك شهدت تراجع الديمقراطية الليبرالية في وسطها الأصلي، في أمريكا وأوروبا، بما يفرض التساؤل حول قابلية هذا النموذج للتصدير والتعميم الكوني.
وهكذا، تفيد استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن ثلث الأمريكيين لا يعتبرون أن الديمقراطية حاجة حيوية، في حين يرى سدسهم أن النظام العسكري طريقة جيدة للحكم السياسي.
في قلب العالم الغربي تتزايد وتيرة الديمقراطيات غير الليبرالية التي تستند إلى أهواء ومشاعر الشعوب من أجل تكريس الإجراءات التسلطية والتمييزية والقمعية التي تتعارض كليًا مع القيم والمعايير الليبرالية.
يطلق مونك على هذا النوع من الأنظمة السياسية عبارة “الديمقراطيات التراتبية”، ويرى أن سمتها المميزة هي استخدام المسطرة الانتخابية طريقًا للوصول إلى السلطة، ومن ثم الشعور بتخويل شعبي مطلق يسمح بتقويض منظومة الحقوق والأعراف الضامنة للتعددية، وإلغاء المؤسسات العمومية المستقلة ونظام الفصل بين السلطات الذي هو أساس الممارسة الليبرالية.
التحدي الكبير المطروح هنا هو التعارض الظاهر بين الحريات الفردية والإرادة الشعبية، أي بين المضامين القيمية والفلسفية لليبرالية والإرادة الجماعية كما تعبر عن نفسها في اللحظة الانتخابية.
ومن هنا يتساءل مونك: ألا تكون فترة الاستقرار السياسي التي عرفتها البلدان الغربية ناتجة عن شروط وأسباب لم تعد قائمة اليوم؟
الجواب هو بالإيجاب، باعتبار أن الديمقراطية منذ منطلقها قامت على ثلاثة أسس لم تعد اليوم فاعلة وهي: السياق الاقتصادي الملائم في مرحلة اتسمت بالزيادة المطردة للدخل بما عزز ثقة المواطنين بالسياسيين المشرفين على الخطط والبرامج التنموية على عكس الوضع الحالي، والانسجام الاجتماعي والديمغرافي الذي ضمن مستوى ثابتًا من التضامن العضوي التلقائي على عكس حال المجتمعات الراهنة التي أعادت حركات الهجرة بناءها وفرضت عليها تحديات غير مسبوقة، وتحكم النخب السياسية والمالية في وسائل الاتصال الجماهيرية الذي أصبح اليوم متجاوزًا في مرحلة تحرر وسائط الاتصال العام من كل رقابة وضبط بما فسح المجال للأصوات الراديكالية المتطرفة التي غدت حاضرة بقوة في الميدان التداولي المفتوح.
إن هذه التحولات ليست ظرفية أو هامشية، بل تعبر عن تغيرات بنيوية عميقة لا يد من التعامل معها بجدية ومسؤولية.
فلا مجال للاستقرار الديمقراطي دون توزيع عادل للنمو الاقتصادي، بما يقتضي سياسات تنموية جديدة في مواجهة حركية العولمة التي قوضت سيادة الدول الوطنية وقدرتها على إدارة المطالب الجماعية.
كما أنه لا بد من مواجهة سياسات الهويات العرقية والمجموعاتية التي تقوض منظومة المواطنة المتساوية في بلدان أصبحت شديدة التنوع الإثني والثقافي، بما ولد خطابات الاعتراف الراديكالي وأجج مطالب الخصوصية المغلقة.
وفي الأخير، لا بد من وضع معايير ونظم دقيقة وفاعلة لضبط شبكات الاتصال المفتوحة التي غدت المصدر الأساسي للكراهية، والأخبار الزائفة والتجييش العاطفي.
تندرج أطروحة مونك في الكتابات السياسية الراهنة التي خرجت عن مسلكين شائعين، هما:
- التفاؤلية الليبرالية التقليدية التي تنطلق من قانون غائي للتاريخ، يؤمن بأن المحطة الديمقراطية الليبرالية هي خطوة اكتمال المجموعات البشرية في طموحها إلى الحرية، والعدالة والكرامة. ومن ثم فإن البلدان التي تحكمها أنظمة تسلطية قمعية، ستنتهي إلى التحرر من الطغيان والاستعباد، سواء من خلال التطور الإجتماعي الذاتي أو الثورات التحررية الشعبية. ولقد عبرت أطروحة فرانسيس فوكوياما حول “نهاية التاريخ” عن هذه الرؤية التفاؤلية من منطلقات هيغلية معروفة.
- الاستثنائية الغربية بالقول إن شروط الديمقراطية الليبرالية المستقرة لا تتوفر إلا في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، لأسباب لها علاقة بنمط الثقافة والدين (ماكس فيبر ومارسال غوشيه) أو تركيبة الدولة القومية في علاقتها بالنسيج الاجتماعي، ونمط التدبير السكاني والحكامة الاقتصادية (أطروحة فرناند بروديل وغيرها من الأطروحات).
ما تبينه مقاربة مونك هو أن العلاقة بين الديمقراطية في مرجعيتها الغائية (تحقيق إرادة الشعب السيادية المطلقة) والليبرالية في مقوماتها الفلسفية النظرية (نظام الحريات والحقوق الفردية) ليست بديهية ولا ثابتة. ولقد نجح التأليف بين الحركيتين لأسباب ظرفية وتاريخية، لا دليل على أنها ستستمر في المستقبل. ومن هذه الأسباب ما يتعلق بطبيعة الثورة التقنية والصناعية الأولى، ونظام الدولة القومية وتشكل المجموعات السيادية الوطنية.
ما نعيشه راهنًا وضع مختلف من حيث المقومات الاقتصادية والتقنية والمجتمعية، بما يفرض إعادة بناء الأطروحة الديمقراطية على أسس جديدة. ولا شك في أن الموجة الشعبوية التي تجتاح على نطاق واسع الديمقراطيات الليبرالية الغربية ليست مجرد حالة ظرفية مؤقتة تعبر عن تغير أمزجة الناخبين، بل تعبر عن تحول نوعي في الحقل السياسي، بما يسمح بالتساؤل المشروع حول مستقبل الاستقرار السياسي والمدني في المجتمعات الأوروبية والأمريكية.
خلاصة كلام مونك أن الظروف التي ولدت فيها الديمقراطية الليبرالية تغيرت كليًا، ولم يعد من المؤكد أن يستمر هذا الخيار حتى في مهاده الأصلي