الراصد : الثورات والحراك الجماهيري وبقية ظواهر التفاعلات الاجتماعية هي مثل التفاعلات الكيميائية؛ تحدث من تلقاء نفسها إذا استكملت أسبابها، وتنفعل لطبيعة خصائصها الذاتية وطبيعة الظروف التي تفاعلت معها.. لا يستطيع أحد إيقافها إذا اشتعلت ولا يستطيع أحد إطلاقها إذا لم تستكمل أسبابها!
وهنا أتحدث عن الثورات والظواهر الحقيقية لا المصنوعة.. عن ثورات الربيع العربي مثلا لا عن ليلة 30 يونيو، فثورات الشعوب لا يستطيع عاقل منصف أن يزعم أن أحدا صنعها وأطلقها.. وأما ليلة 30 يونيو أو أي مظاهرة تأييد -فضلا عن الانقلابات العسكرية- فلا يستطيع أحد أن يزعم أنها طبيعية تلقائية!
أقول هذا الآن لأن كثيرا من الناس، بمن في ذلك الدعاة والعلماء وغيرهم، يجدون أنفسهم في حيرة وحرج من سؤال التكلفة والبدائل..
فمن المفهوم أن يتورع العالِم عن الإفتاء بجواز إشعال ثورة أو تحريض على الخروج الجماهيري لأنه قد يتخوف من المآلات والتكلفة واحتمالات النجاح (طبعا هنا أتحدث عن العلماء المخلصين.. أما المداخلة وعلماء السلاطين فهؤلاء خدم وعبيد لا نأبه بهم).
لكن حين تقع الثورة فعلا، ويحدث التفاعل الاجتماعي الطبيعي، الذي هو شبيه بالتفاعل الكيميائي، فحينئذ يكون قد خرج الأمر من يده.. وصار الواجب في حقه وفي حق الجميع واجبا آخر.. لا يتعلق بمسألة: جواز الثورة والخروج أو عدم جوازه.. بل يصير الواجب متعلقا: كيف نذهب بهذه الثورة إلى تحقيق أهدافها بأقل التكاليف!
ذلك أن أحدا لا يمكنه وقف التفاعل الطبيعي الذي انفجر بالفعل لأسباب قديمة وعميقة ومتراكمة.. إن هذا شبيه بأن يقف الكيميائي أمام البنزين ليطالبه ألا يشتعل إذا مسته النار، وأن يحذره من الكارثة التي ستحصل إذا اشتعل، ويفتيه بأنه لا يجوز له أن يشتعل!!
والشعوب لا تنفجر بسهولة، بل انفجارها دليل على أن الأمر لم يعد يحتمل..
ولهذا، فلئن كان الموقف المحافظ للعالِم والداعية وأي شخصية قيادية ونخبوية أخرى مفهوما قبل انفلات الجماهير.. فهو لم يعد كذلك.. لم يعد مفهوما ولا مقبولا إذا انفلتت الجماهير، فساعتها لا خيار: إما أن يصب الموقف في صالح الحاكم الظالم السفاح أو في صالح المظلومين المقهورين الذين انفجروا.. وكل مواقف الوسط لا معنى لها، لأن كل المواقف ستؤول إلى مصلحة أحد الطرفين لا محالة!
وهذا الكلام أقصد به العلماء والدعاة والشخصيات النخبوية التي لم تُؤْت موهبة فهم السياسة والواقع.. فأما العالم الحاذق الذكي، فهو يعرف قبل الجميع وقبل أن تقع الظواهر: ما هو النظام الذي يرجى صلاحه بالكلام أو بالتظاهر أو بالقانون، وما هو النظام الذي لا يرجى معه صلاح إلا بالخروج والثورة.. فهو يفقه ويفتي ويتحرك وفق ما رزقه الله من العلم بالشرع ومن البصيرة بالواقع.
الآن نحن أمام مثال محلول: السيسي في مصر..
الطريقة التي يمضي بها نظام السيسي ستؤدي حتما إلى تغيير في مصر، ثورة أو انقلاب أو اغتيال أو أي شيء.. لا يمكن أن يبقى الحال على ما هو عليه!
وإذا حدث هذا التغيير فمن المؤكد أن الفوضى ستعم مصر، وستستمر وقتا يطول أو يقصر بحسب كثير من العوامل المتفاعلة والمتداخلة!
هذا التفاعل الذي يجري أمام الجميع لا يمكن لأحد إيقافه، الشعب الذي يغلي لا يملك أحد أن يوقف غليانه، وكذلك الطاغية السفاح لا يملك أحد أن ينصحه ليغير من طريقته ونهجه.. والأفكار التي تتفاعل في الرؤوس لا يملك أحد كبحها!!
وبعد أن تحدث الفوضى التي ستكون نتائجها مروعة، سيتحدث كثير من الناس عن الأمن المفقود الذي كان في ظل الرئيس السيسي!! وعن الذين جلبوا الخراب للبلد!! وعن الذين حرضوهم على هذا الخراب... إلخ!! تماما مثلما يترحم بعضهم الآن على أيام حسني مبارك والقذافي وزين العابدين بن علي... إلخ!!
الأمر يشبه أن يعاد أمامك نفس الفيلم ونفس القصة ونفس مباراة الكرة التي تعلم نتائجها مسبقا!!
فما الحل؟!
لئن كانت قدرتنا على تغيير الفيلم أو نتائج المباراة مستحيلة، فقدرتنا على تغيير مستقبلنا ممكنة، وكلما كنا ضعافا كانت قدرتنا أضعف!
لكن المهم هنا أن قدرتنا على تعطيل التفاعل الطبيعي مستحيلة تماما..
إن الناظر بعين البصيرة يعرف أن مهمته الآن أن يعمل على وصول هذا التغيير المرتقب لأهدافه التي تصب في صالح البلد والشعب بأدنى تكلفة ممكنة!
أما النواح في التحذير من عواقب التغيير الآن فمن المؤكد أنه لن يغير شيئا!.. كذلك فإن النواح بعد حصوله وبعد عموم الفوضى لن يغير شيئا!
إن كان من أحد يعمل لمصلحة الأمة حقا، فهو يعمل منذ الآن على ترشيد هذا الحراك ما أمكن، وعلى بيان كيفية بلوغه أهدافه بأفضل وأسرع ما يمكن، وعلى توجيه الناس إلى ما فيه من المزالق والعقبات ليتجنبوها ما استطاعوا!
وثمة مسؤولية تقع أيضا على كثير من الناس.. لقد مرّت بنا في هذه السنين أحداث ضخام، ظهرت فيها معادن الناس وتغربلت فيها مواقفهم، وعُلِم فيها من الذي ينصح عن حق ويتكلم عن بصيرة، ومن الذي يهرف بما لا يعرف، وينتقل كالبهلوان بين المواقف والرؤى.. فلئن كنتَ تريد الهداية حقا فالتمس من دلَّت مواقفه وكلامه على صوابه.. واختبر تاريخ الذين يتكلمون ودقق فيه، كي لا يلعب بك النصابون المحترفون!
** هامش ختامي: قبل قليل قرأت منشورا لضابط مصري سابق، انتقل بكل مرونة من تأييد داعش إلى تأييد نظام السيسي، وبينهما مرَّ على تخوين قيادة المقاومة واتهامها بالعمالة للصهاينة.. نموذج بائس شنيع إن كان مغفلا غبيا (وهذا الأقرب عندي)، ونموذج ذكي خبير إن كان فعل ذلك كله عامدا..
ولكن الخلاصة في أن الذي يُسَلِّم عقله لمثل هذا سيكون أداة تفجير إذا جاء وقت الأمل والتغيير، وسيكون أداة تثبيط وتخذيل إذا استقر الطغيان وغلب السفاح المبير!