الراصد: اتمنى ان يحاط رئيس الجمهورية علما بهذه القصة..
فهو الحارس الاخير لقيم الجمهورية.
اتمنى ان يتحدث المثقفون و اهل الخبرة في هذه القضية فهم المكلفون بهز الضمير الجمعي..
في الرابع عشر من مارس المقبل ستنطق الغرفة الجنائية للمحكمة العليا في قضية المتهم براهيم الادهم وستنتهي الجدالات القضائية فيها.. وهي جدالات اثبتت فداحة احوال القضاة بهذه البلاد؟
وليتخيل احدكم،انه يمكن ان يحكم عليه بالاعدام عقابا على جريمة لم يرتكبها..؟
يا للهول...!
ها هو براهيم الادهم يحكم عليه بالاعدام رغم وضوح البراءة..
الآن يوجد ملفه في صمت مداولات مكتومة بين ايدي قضاة المحكمة العليا
أي في آخر مراحل التقاضي..
ويجب ان اعلن على الملأ خشيتي وتوجسي ..
خشيتي من قضاة هذه الجمهورية الاسلامية الذين لا يستصحبون فرضية البراءة دائما...
ويكفرون جهارا نهارا ..بما تجب معرفته من العلم بالضرورة.
هل تعرفون ماذا يعني ان يحكم بالاعدام على شخص في جريمة لم يرتكبها..؟
هل تدركون خطورة التغاضي عن القاتل وتلبيس غيره جريرة فعله..؟
ابراهيم ولد الأدهم..ليس بطلا خرافيا..
ولا عبقريا يستحق التمجيد..
انه مجرد انسان يستحق الحياة..
.يستحق الحياة دون ظلم ..
ودون تعذيب.
ابراهيم الأدهم صبي فقير من قبيلة صغيرة من قبائل الغرب الموريتاني تدعى "المزازغة"..
ولد لاسرة مساكين..
عمل والده وكيلا في الشرطة حتى التقاعد..
وترعرع في كنف بيت زهيد من بيوت ضواحي هذه البلدة "الظالم اهلها"..
عائلة من تن سويلم.. تجتمع على الخبز الساخن..واتاي الصين الاخضر..
شانها شأن اي اسرة موريتانية طبيعية :
بلامشاكل..بلا ضغينة..بلا أعداء.
انهم عباد لله.. يمارسون فعل الحياة على ارضه..
دون تبختر او جموح...دون علو..ودون فساد.
هذا الطفل المسكين اعتقل منذ ست سنوات ..
و وقت اعتقاله كان في الثامنة عشرة و أيام قليلة..
و احيل الى القضاء
بتهمة اغتيال محمدو ولد برو..
بتهمة حرق جثة ولد برو...
بتهمة سلب محمدو ولد محمد عبد الرحمن ولد برو اربعين الف أوقية كانت في جيبه.
هكذا أحالت الشرطة المحضر للوكيل...
و لقد حضرت لنقاش الوكيل مع ابراهيم ..و مع المتهمين الآخرين...و صعقت من حيادية الوكيل أمام آثار التعذيب البادية على الصبي..!
لقد كانت آثار التعذيب جلية على الوجه المتورم..
مسجلة على الكدمات الزرقاء في كل شبر من بدنه الهزيل و الشاحب...!
على طاولة الوكيل كانت صورة الجثة المتفحمة..!
و بجانب صورة الجثة المتفحمة صورة ولد برو باسما..!
صورة الجثة المتفحمة ..و صورة الشهيد الباسم تقابلتا في دفتي البوم منفتح على مكتب الوكيل.. الذي كان يلقي النظر على الصورتين ويتحشرج..ويواصل الاسئلة المتلاحقة ويغالب الدمع.
أسئلة من نوع هل سبق ورايت هذا الشاب..؟
حين احرقت هذا الشاب أكنت تريد اخفاء البصمات..؟
هل صحيح انه كان يشهد و يحوقل.. حين اشعلت ملابسه..؟
و في كل مرة كان الصبي يقول :
هذا لم اقله...هذا غير صحيح..
فيشير الوكيل باصبعه الى مكان التصريح في محضر الشرطة..
و يكرر لقد قلت هذا هنا..
و هكذا الى ان انتهى الاستماع..!
خرجنا من مكتب الوكيل.. و دلفنا الى قاضي التحقيق..و انفتح نفس الالبوم الحزين..بصورتيه المتقابلتين على خشبة مكتب التحقيق...و بجانب الالبوم سكين في وعاء بلاستيكي شفاف وقد بدت عليها قطرات متيبسة من الدم..و وعاء بلاستيكي آخر فيه دراعة ابراهيم ولد الادهم الملوثة بدم القتيل..و وعاء ثالث فيه قطع من كنبة السيارة..التي قتل فيها ولد برو حسب وثائق الشرطة و على قطع الاسفنج بقع حمراء من دم القتيل.
المحضر صارخ بالادانة...و باعادة تمثيل الواقعة..
و المتهم ينكر...و يتهم الشرطة بالتلفيق..
و لا حول ولا قوة الابالله.
تقبل قاضي التحقيق طلبات الوكيل بعد المثول الاولي و ارسل الجميع الى السجن بتهمة الاغتيال و تنظيم عصابة اشرار لممارسة الحرابة.
بعد اسبوع و نيف من ايداع ابراهيم في السجن المركزي ذهبت اليه ..
و أصر على الانكار..لقد كنا وحدنا..انا و هو بين اربعة جدران كتيمة..
اربعة جدران حزينة...اربعة جدران ضارية.
غصت في عينيه بعيدا..غصت بكل ما أوتيت من خبرة في الدخول لمكامن الروح...
و غمرني شعور لزج بان هذا الشخص لم يقتل احدا..
حاولت دفن ذلك الشعور باستذكار صورة الجثة المتفحمة لكنه ظل على حاله.
عدت من سماعي للمسكين مثقل الروح..
فلا شيء يمكن الاعتماد عليه لاخراج هذا الصبي الوديع ...
هذا الصبي الهزيل من الورطة..!
لا شيء عندي سوى حالة وجدانية لمحام يحب الادب الروائي..!
الحدس الخاص قال لي انه برئ ..
اجمل ما في المحاماة.. انها تطلع صاحبها على كثير من دواخل النفس...
لذلك فأنا مدين لها بالكثير..
فقد منحتني فرصا فادحة الجمال للتعرف على تأوهات البشر..
و انكسارات الانسان.
انبل ما في هذه المهنة العتيدة هو شعور عارم بالزهو يعتريك حين تدرك انك بارقة الأمل الوحيدة لانسان -لاتربطك به اي صلة قربى- في ساعة اتحدت فيها كل عوامل الحياة على سحقه..!
المحامي الجيد ..كزهرة برية يتجلى جمالها حين تكون بمفردها في مواجهة الريح و السوافي...لذلك فلا مبالغة اذا قلت :
ان المحامي فقط يستطيع ان يشكل اغلبية لوحده..
و يستطيع مواجهة الجميع لوحده.
تواصلت جلسات التحقيق طويلة ..و ضارية ..
و تسرب نفس الشعور في كل دهليز من دهاليز المحكمة عقب كل جلسة.
لكن ظلت الوقائع صلبة و قاسية.. و هنا وجد التحقيق ان الافضل للوصول الى حالة يقينية في هذه المسالة ان يستعين بالعلم و مكتسبات التقانة.. و اجراء خبرة مخبرية على الحامض النووي للانتهاء من الشكوك و الى الابد.
وجه قاضي التحقيق طلبه للوزارة عبر النيابة ..و اخذ مسلسل الصعود الرتيب شهورا طويلة.. مر بمكتب المدعى العام للاستئناف ثم مكتب المحامي العام للجمهورية.. و نزل على مكتب وزير العدل..وبعد استشارات هناك.. وافق الوزير على المبدأ وكلف احد معاونيه بمراسلة الطب الشرعي.
وكتب الدكتور محمد الامام ولد الشيخ ماء العينين رئيس قسم الطب الشرعي في مركز الاستطباب الوطني بنواكشوط لمكاتب خبرة دولية يبحث عن تكاليف الخبرة ورسى العرض على مكتب فرنسي فخم و وافقت الوزارة و راسلت وزارة المالية و اخذ استخراج النفقة من المالية وقتا طويلا..
و كيف لا و هذه أول مرة تجرى فيها دراسة على الحامض النووي في تاريخ القضاء الموريتاني.
ثم اتى وقت أخذ العينات...بعناية الدكتور ولد الشيخ ماء العينين..و اخذ عينات بيولوجية من اب الشهيد السيد محمد عبد الرحمن ولد برو..و من أمه السيدة فاطمة بنت برو...و ارسل العينات رفقة السكين و الدراعة و قطع الاسفنج المقطوعة من كنبة السيارة الى مختبر الهيماتولوجي للطب الشرعي بمدينة بوردو الفرنسية تحت الرقم 2019/1246 ولا ضير في التذكير بأن هذا المختبر حائز على اعتراف السلطات الحكومية الفرنسية و على علامة ايزو بأعلى درجات الائتمان.
في بوردو السامقة و الجميلة أخذ البروفيسور كريستيان دوترميبويش الأمر بيديه و البروفيسور دوترميبويش حائز على شهادات الدكتوراه في الطب..و الدكتوراه في الصيدلة..و الدكتوراه في البيولوجيا..و هو مسجل على قائمة الخبراء لدى محكمة النقض الفرنسية و ساعده في المعاينة و التحليل كل من الدكاترة غيوم مونيك و غيوم دديبردو و السيدات بولين كارنينغ و السيدة صوفي لازال و السيدة اودري اسبانادا.
وكانت خلاصة الخبرة :
ان الدم الموجود على السكين ليس دما بشريا ..
وان بقع الدم الموجودة على الدراعة ..وعلى اسفنجة السيارة لا علاقة لها البتة بالسيد ولد برو الاب..و لا بالسيدة بنت برو الأم.
علميا هذا يعني ان ابراهيم ولد الادهم لم يقتل ولد برو..
المعلومات الاكلينكية تتطابق مع الحالة الوجدانية التي اتضحت لى بالعين المجردة.
هذا يتناغم تمام التناغم مع اتهام ابراهيم ولد الادهم للشرطة بتلفيق الجناية عليه...و يتماشى مع الكدمات الزرقاء التي سجلت في محضر التحقيق ساعة الاستجوابات السالفة الذكر.
و استدعينا لجلسة المحكمة الجنائية...و امام الادلة اليقينية الماحقة..كنت أتوقع ان تعلن المحكمة براءة ابراهيم الادهم من دم ولد برو..فقد حسمت الخبرة الامر.. لكنني وجدت نفسي امام قضاة في حالة غير مسبوقة من التردد و الوجوم..
و النزوع الى نكران العدالة.
سجلوا معي ان وكيل الجمهورية اعترف امام المحكمة بجدية الخبرة و قال انه يحترم خلاصاتها...
و رغم كل ذلك فقد حكموا على براهيم الادهم بالاعدام لأن الاخذ بالحامض النووي كدليل جدي امر غير مستساغ عندهم... و لا يصدقونه.. و فيهم من قال انه بدعة و سخافة.
و جلهم يعتبرون تقديم شهادة من مختبر طب فرنسي "كافر" على اقوال شرطي مسلم امر غير مستقيم شرعا...!!
و اتت محكمة الاستئناف بتأويلات متعسفة و قررت كسابقتها رفض التقرير الطبي ضاربة بعرض الحائط.. ان الامر القضائي تحصن بعد انتهاء الآجال دون طعن.
انه الجهل..و انعدام الثقافة الانسانية ...و قلة التحضر حين يتلفع صاحبها بوشاح القضاء و يجلس على كرسي لا يمتلك العدة العلمية له ...فأغلب قضاة موريتانيا لم يدرسوا في مدارس الجمهورية و لم يمروا على مقررات العلوم الطبيعية و لا يعرفون اي شيء عن الحامض النووي ..و النووي الوحيد الذي يعرفون هو ابو زكريا يحيى بن شرف الحزامي النووي فقيه الشافعية المشهور..
وغير ذلك فلتشربه بماء البحر يا سيدي..!
كما قال لي احدهم ذات صباح في مكتبه المغبر و الحزين..
ان قضاة موريتانيا..في هذه القضية و رغم تصنع التقوى الزائفة انما يتهربون من السؤال الاهم :
و هو اذا كان الدم الموجود على السكين و على الدراعة و على اسفنجة السيارة ليس دم القتيل فمن وضع الدم المزيف
على هذه السكين..
وعلى تلك الدراعة.. وعلى تلك السيارة..؟
من المعلوم ان الذهن سينصرف تلقائيا الى الشرطة..
و هذا ما يريد القضاة تجنبه.. و لو البسوا الجريمة على غير فاعلها..
في الختام اصبح يساورني -اعتقاد شبه يقيني- ان الذين قتلوا ولد برو وحرقوه انما ارادوا بحرقه توقيع الجريمة وارسال رسالة تهديد مبطن لاناس ما...
و لا يفوت على نبيه مثلك -ايها القارئ -ان الفقيد كان يعمل في شركة تحويلات مالية (غزة تلكوم) و قد وقعت في السنوات الماضية جرائم مشابهة بنفس التوقيع..و كان ضحاياها جميعا ممن يعملون في بديلة العملات و تحويلها.
لذلك انزع الى الاعتقاد الى ان شبكة ارهابية منظمة كانت وراء هذه الجريمة..و هي شبكة لعلها نافذة في الامن و في القضاء.. و ذلك سر اصرار البعض على دفن الحقيقة..
و تلبيس الجناية لمن لم يقم بها.
في الختام :
ادعوكم الى قراءة الخبرة الطبية و امعان النظر في خلاصاتها..
واهيب بكل محبي العدل في موريتانيا ان يقفوا وقفة رجل واحد للدفاع عن حق هذا المسكين في الحياة، فقد تجرع ما لا يمكن وصفه من التعذيب البدني و المعنوي،
و الصقت به جريمة لم يقم بها ..
و تذكروا ان مساكين مثله كانوا على وشك تلبيسهم جناية قتل الفقيه والاديب الاريب محمد سالم ولد التاه ولد آلمان لولا ان كشفت المقادير عن القتلة الحقيقيين بعد ان ظلموا شهورا طويلة ..
لقد هانت كرامة الانسان في موريتانيا..بموجب علاقة تضامن مشبوهة - و أقرب ما تكون الى زنا المحارم- بين شرطة عابثة و قضاء مستهتر.
اللهم ان هذا جهدي ..
اللهم اني قد بلغت..
اللهم لاتتركهم بحقه..
اللهم اني مفجوع فانتصر..