العسكريون الجدد وملامح تشكل نظام إقليمي في الساحل

أحد, 10/09/2023 - 11:35

الراصد: يبدو أن منطقة الساحل بصدد حقبة جديدة تفرضها دينامية التفاعلات الإقليمية المعقدة والمتشابكة التي تصاحب موجة الانقلابات العسكرية الأخيرة، وما ترتب عليها من صعود نخبة من العسكريين الجدد في مواقع السلطة بعدد من دول المنطقة، في أعقاب الإطاحة بالأنظمة الحاكمة السابقة المتحالفة مع الغرب الذي يسعى لإجهاض تلك المحاولات حمايةً لمصالحه ونفوذه الذي يتداعى بشكل ملحوظ لصالح أطراف دولية أخرى مثل روسيا التي تستغل تحولات الساحل لتعزيز حضورها ونفوذها، وسط تكهنات حول تشكل نظام إقليمي جديد في الساحل استنادًا إلى عدد من المؤشرات التي تعزز هذا الطرح خلال الفترة المقبلة، وما قد يصاحبه من تداعيات على مستقبل إشكاليات بناء الدولة والتنافس الدولي في المنطقة. 

تحولات جوهرية في الساحل 

ما تشهده منطقة الساحل من تصاعد موجة الانقلابات في عدد من دولها على مدار السنوات الثلاث الأخيرة هو نتيجة حتمية لعقد ماضٍ اتسم بدرجة كبيرة من التعقيد والاضطراب على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، في ضوء ما شهدته دول المنطقة من تحديات ومعضلات شكلت أزمة مركبة حول شرعية الأنظمة الحاكمة التي تورط بعضها بالفعل في انقلابات دستورية مثلت دافعًا رئيسيًّا لاندلاع بعض الانقلابات العسكرية، كما هو الحال في غينيا كوناكري التي أطيح برئيسها السابق ألفا كوندي في سبتمبر 2021، بعدما حاول تمديد فترة رئاسته بإقرار تعديلات دستورية تتيح له الاستمرار في السلطة لفترات رئاسية جديدة بما يخالف الدستور الغيني. 

ويمثل ذلك جزءًا من أزمة بناء الدولة في الساحل، والتي عرقلت مسيرة التنمية هناك على مدار السنوات الماضية، وهو ما أدى إلى تراجع الثقة في قدرة مؤسسات الدولة بالمنطقة على تجاوز التحديات نتيجة إخفاقها في أداء وظائفها المنوطة بها مثل الأمن والتنمية، حيث أدى غياب سلطة الدولة على جزء من أراضيها إلى اتساع رقعة سيطرة التنظيمات الإرهابية وتصاعد نشاطها وعملياتها في المنطقة التي أضحت أحد أخطر المناطق الساخنة على مستوى العالم خلال الفترة الأخيرة. بالإضافة إلى سخط العسكريين تجاه سياسات بعض الحكام مثل الرئيس النيجري الذي أطيح به محمد بازوم الذي أشارت تقارير إلى انخراطه في صفقة لإطلاق سراح بعض السجناء. كما أن تورط بعض الأنظمة الحاكمة السابقة في تزوير الانتخابات أسهم في تصاعد الاستياء الشعبي وضعف الثقة في الديمقراطية الأفريقية، ما اُعتبر أحد دوافع الإطاحة بتلك الأنظمة، وهو ما تجسد في الانقلاب العسكري بالجابون الذي أطاح بحكم الرئيس السابق عمر بونجو بعد اتهامات لنظامه الحاكم السابق بتزوير الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بنسبة تجاوزت 64%[1]، إلى جانب تداول بعض الشائعات حول تجهيزه لنجله نور الدين بونجو الذي كان يشغل مستشارًا سياسيًّا للرئيس ورئيس حملته الانتخابية الأخيرة لخلافته في الحكم. 

كما عزز تدهور اقتصادات دول الساحل أزمات المنطقة التي وصفها المجتمع الدولي بأنها تضم الدول الأكثر فقرًا في العالم وفقًا لإحصاءات المؤشرات الدولية، وذلك لأنها اقتصادات ضعيفة التنوع، فعلى سبيل المثال، يعيش أكثر من 10 ملايين شخص بنسبة 40% من إجمالي سكان النيجر في دائرة الفقر وفقًا لبيانات عام 2021[2]. ويتزامن ذلك مع تدفق الملايين من اللاجئين الفارين من الصراعات في الدول الأفريقية مثل نيجيريا ومالي والسودان ليمثل عبئًا ضاغطًا كبيرًا على دول الساحل لا سيما النيجر وتشاد وغيرهما، فقد حددت الأمم المتحدة أكثر من 370 ألف نازح داخليًّا وأكثر من 250 ألف لاجئ في النيجر خلال الفترة الأخيرة[3]، وهو ما يضاعف من الأزمات الإنسانية في البلاد، حيث تشير التقديرات الدولية إلى أن هناك 4.3 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في النيجر في الوقت الراهن، مقارنة بحوالي 1.9 مليون شخص في عام 2017[4]، وهو ما يعكس حجم الأزمات الإنسانية المتفاقمة في المنطقة خلال السنوات الماضية. 

إضافة إلى ذلك، تمثل الثورة الليبية التي اندلعت في عام 2011 وما صاحبها من تداعيات أمنية على دول الساحل بحكم الجوار الجغرافي والتأثير الجيوسياسي المباشر أحد أبرز التحولات الجوهرية في منطقة الساحل[5]، والتي ارتبطت بعوامل أخرى أبرزها تصاعد نشاط الإرهاب الذي شكل ذريعة للتدخلات الأجنبية لا سيما فرنسا، وهي عوامل قد لعبت دورًا فيما آلت إليه الأوضاع الإقليمية في الساحل في الوقت الراهن. 

إذ يعتقد الأفارقة أن هناك علاقة ارتباطية بين سقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا وما ترتب عليها من اضطرابات واسعة في الساحل التي استقبلت أكثر من 30 مليون قطعة سلاح قادمة من الأراضي الليبية[6]، مما سهل عمليات التمويل اللوجستي للتنظيمات الإرهابية التي تعزز موقفها وحضورها في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وبين تصاعد مشاعر السخط والاستياء الشعبي وداخل صفوف العسكريين تجاه الأنظمة الحاكمة فيما يتعلق بمواجهة التحديات الأمنية بما في ذلك تصعيد الإرهاب، وهو الملف الذي أخفقت فيه أيضًا القوى الأجنبية على رأسها فرنسا منذ انخراطها في المنطقة في عام 2012، حيث تشير تقديرات غربية إلى أن منطقة الساحل مسئولة عن 43% من وفيات الإرهاب في العالم أي أكثر من مناطق جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجتمعة[7]، الأمر الذي شجع العسكريين على القيام بانقلابات طالت حوالي خمس دول أفريقيا منذ عام 2020. 

ويظل السياق الإقليمي الراهن في الساحل أكثر تعقيدًا في ظل توسع نطاق حزام الانقلابات الذي تشهده بعض دول المنطقة مع تكهنات بتمدده لدول أخرى مستقبلًا، وسط حالة من الاستقطاب الإقليمي الحاد تنذر باحتمال اندلاع حرب إقليمية في النيجر لوضع حد لسلسلة الانقلابات الأخيرة، وذلك في ضوء التوتر المتزايد بين تكتل إيكواس مدعومًا من فرنسا والغرب والمجلس العسكري الانتقالي الجديد في نيامي عقب الإطاحة بالحليف الرئيسي للغرب في الساحل الرئيس محمد بازوم في 26 يوليو 2023، الأمر الذي يعزز زعزعة الاستقرار الإقليمي في منطقة الساحل المحاطة بحزام من الأزمات الإقليمية سواء الأزمة الليبية المستمرة في الشمال، واحتدام الصراع العسكري في السودان المندلع منذ أبريل 2023 من ناحية الشرق، وتوسع دائرة التهديدات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا وتمدده إلى بعض المناطق في الوسط الأفريقي، وهو ما يجعل مهمة العسكريين الجدد صعبة حال استمرارهم في السلطة خلال الفترة المقبلة. 

حقبة العسكريين الجدد 

ارتبط صعود العسكريين الجدد في بعض الدول الأفريقية -مالي وغينيا بيساو وبوركينا فاسو والنيجر والجابون- بفشل النخب الحاكمة في الحكم ومعالجة الأزمات والقضايا التي تواجه حكوماتها. لذلك تعددت أسباب ودوافع قيام الانقلابات العسكرية في تلك الدول منذ عام 2020، واقترن معظمها بالإخفاق في مواجهة التحديات الأمنية بما في ذلك القضاء على التنظيمات الإرهابية التي انتشرت بشكل واسع في الساحل خلال العقد الأخير، وهو ما جسدته البيانات التي تلاها العسكريون في الدول الخمس عند الإعلان عن الإطاحة بالأنظمة الحاكمة.   

وإن كان الأمر يختلف نسبيًّا بالنسبة للنيجر التي تشير التقارير الدولية إلى نجاح استراتيجيتها خلال السنوات الأخيرة في مواجهة التهديدات الإرهابية ولو بشكل نسبي مقارنة بدول جوارها، واعتماد الغرب عليها باعتبارها حليفًا إقليميًا قويًا في مكافحة الإرهاب، وهو نفس الشيء بالنسبة للجابون التي قلما تعاني من التهديدات الأمنية خلال السنوات الماضية، وهو ما يروج له الغرب المناهض لتلك الانقلابات بأن هدف العسكريين هو الاستيلاء على السلطة من أجل السلطة والاستحواذ على الثروة والموارد الغنية بها تلك الدول، خاصة أن بعض قادة الانقلابات مثل الجنرال أوسيمي غويتا، رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في مالي، قد مهد الطريق أمام استمراره في السلطة بالبلاد وفقًا لما يقره مشروع الدستور الجديد الذي أقره الشعب المالي في يونيو 2023 بنسبة 97%[8]، والذي لا يمانع ترشح العسكريين للانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في ديسمبر 2024. 

ومن دون شك، فإن ذلك سيعقد العلاقة بين العسكريين الجدد والغرب خلال الفترة المقبلة، ومن شأنه تغذية الاستياء الشعبي تجاه الوجود الأجنبي في دول الساحل، وهو جزء من الشرعية التي ربما سيبني عليها العسكريون استمراريتهم في السلطة خلال السنوات المقبلة، كما كان جزءًا أساسيًّا من دوافعهم للقيام بانقلابات ضد الأنظمة السابقة الحليفة للغرب، خاصة مع وجود عامل حاسم جديد في معادلة العلاقة بين الغرب ودول الساحل ربما يعزز حضوره خلال الفترة المقبلة وهي روسيا التي تسعى إلى تطويق النفوذين الفرنسي والغربي في المنطقة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية هناك ومساومة الغرب بخصوص ملفات شائكة بينهما في أكثر من منطقة استراتيجية حول العالم. 

كما تحاول النخبة العسكرية الجديدة حشد الدعم الشعبي من أجل مساندتها في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة عليها خلال الفترة الأخيرة خاصة أنه يعد عاملًا أساسيًّا في تثبيت خطوات الانقلابات الأخيرة، وذلك من خلال تبني خطاب ثوري يستهدف تحسين صورة الجيوش الأفريقية التي تعمل لصالح مواطنيها وخدمتهم، إلى جانب إعادة إحياء الأفكار الثورية تجاه رفض الوجود الأجنبي الذي يستنزف قدرات وثروات الدول الأفريقية، ويعكس ذلك استشهاد خطاب إبراهيم تراوري، رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو، بأفكار توماس سانكارا التي روجها في ثمانينيات القرن الماضي بالبلاد قبل اغتياله. 

ومع ذلك، تبدو مهمة العسكريين الجدد في الساحل صعبة خلال الفترة المقبلة، في ظل إرث ثقيل من الأزمات والتحديات قد خلفتها الأنظمة السابقة لا سيما على الصعيدين الاقتصادي والأمني، وسط توقعات غربية بفشل النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في السلطة، مبررة ذلك بافتقادهم للخبرة وأنهم غير مؤهلين للحكم، إضافة إلى المؤسسات الحكومية الضعيفة في دول الساحل، التي ربما تشكل عائقًا أمام أي إصلاحات محتملة، بينما يدّعي العسكريون أنهم يقدمون شكلًا عمليًّا من أشكال الحكم أكثر من أسلافهم التكنوقراط. 

محورية العامل الخارجي 

تعد القوى الدولية الفاعلة في الساحل لا سيما فرنسا وروسيا حاضرة بقوة في المشهد الإقليمي هناك على مدار السنوات الماضية[9]. فقد شكل الانخراط الفرنسي في المنطقة بحجة محاربة الإرهاب الذي توسع نشاطه هناك، وارتباطها القوي بعدد من الزعماء الأفارقة في المنطقة، أحد العوامل التي تفسر اندلاع موجة الانقلابات الأخيرة، خاصة في ظل غضب العسكريين من الدور الفرنسي في بلدانهم إلى جانب إخفاقها في مواجهة التنظيمات الإرهابية منذ انخراطها في المنطقة في عام 2012، وهو ما انعكس على توتر العلاقات بين الطرفين عقب اندلاع الانقلابات باستثناء الجابون. 

ومع صعود الدور الروسي كمنافس للنفوذين الفرنسي والغربي في الساحل، وإشارة بعض التقارير الغربية إلى ضلوع موسكو -عبر ذراعها العسكرية فاجنر- في تخطيط وتنفيذ الانقلابات الأخيرة، وتأليب الرأي العام الأفريقي ضد الوجود الأجنبي والقوات الغربية والفرنسية بالمنطقة، أدى ذلك إلى تزايد الاهتمام الدولي بتطورات الأحداث على الساحة الأفريقية، وتصاعد المواجهة بين القوى الفاعلة تكشفها المواقف الدولية المتباينة من تلك الانقلابات، وهو ما يمكن اعتباره جزء من حلقة المنافسة الدولية على أفريقيا. إذ ترفض فرنسا مدعومة غربيًّا وأمريكيًّا التغييرات المفاجئة في بعض دول الساحل لا سيما النيجر، وتحاول دفع تكتل إيكواس نحو اتخاذ إجراءات عقابية تصعيدية ضد المجلس العسكري النيجري الانتقالي الحاكم من أجل استعادة النظام الدستوري بقيادة الرئيس محمد بازوم. في الوقت الذي تسعى فيه موسكو -من خلال فاجنر- إلى التقارب مع النخب العسكرية الحاكمة الجديدة من أجل المزيد من التغلغل واكتساب النفوذ، مستغلة توتر العلاقات بين العسكريين الجدد وفرنسا. 

إذ يخشى الغرب، بما في ذلك باريس، من فقدان حلفائه الرئيسيين في المنطقة لصالح خصومه الاستراتيجيين روسيا والصين، وما سيترتب عليه من تراجع النفوذ الغربي هناك بما يفقده عدة ميزات استراتيجية على رأسها الاستحواذ على الثروات والموارد الطبيعية لصالح الشركات الروسية والصينية وغيرها. فمن الواضح أن بوصلة العسكريين الجدد تتجه نحو الحليف الروسي على حساب الحليف الغربي الذي ترتبط مساعداته بالمشروطية السياسية وحقوق الإنسان، وهو ما تتغاضى عنه كل من موسكو وبكين في علاقاتهما مع الأفارقة. 

ومن المتوقع أن تصبح منطقة الساحل ساحة مفتوحة وشاسعة لتنافس اللاعبين الدوليين والإقليميين خلال الفترة المقبلة، خاصة مع تراجع الدور الفرنسي، وسعي العديد من القوى الفاعلة لملء الفراغ واستغلال السوق الواسعة في المنطقة اقتصاديًّا، وإيجاد موطئ قدم استراتيجي هناك بحجة محاربة الإرهاب لا سيما أن منطقة الساحل ستظل تعاني من التحديات الأمنية على الأقل في المدى المتوسط، وذلك في خضم تشابك التفاعلات الإقليمية المعقدة على الساحة الأفريقية. 

ملامح تشكل نظام إقليمي جديد 

تاريخيًّا، اتسم النظام الإقليمي في منطقة الساحل بالضعف نتيجة الأزمات الهيكلية الداخلية بالأساس[10]، والتي كان لها انعكاسها على تماسك ووحدة دول المنطقة، وبالرغم من محاولات بعض دول المنطقة تعويض غياب نظام إقليمي قوي ببعض المبادرات الإقليمية مثل تأسيس مجموعة دول الساحل الخمس G5 في عام 2014 بهدف محاربة التنظيمات الإرهابية في المنطقة[11]، إلا أنها لم تحقق نجاحات قوية في هذا الصدد خلال السنوات الماضية. 

ومع التحولات اللافتة التي شهدتها المنطقة منذ عام 2020 باندلاع موجة الانقلابات العسكرية التي اقترنت بصعود قادة عسكريين إلى السلطة في دول مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو والنيجر والجابون إلى جانب تشاد، ربما تلوح في الأفق ملامح تشكل نظام إقليمي جديد في الساحل، والذي تعززه بعض المؤشرات الدالة؛ فثمة تقارب واضح بين عسكريي الساحل الجدد تجاه الضغوط الإقليمية والدولية، حيث هددت كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري بالتدخل العسكري إلى جانب المجلس العسكري النيجري الحاكم في حالة تنفيذ تكتل إيكواس لتهديداته بالتدخل العسكري في النيجر لاستعادة نظام محمد بازوم مرة أخرى للسلطة[12]، وذلك في إشارة واضحة إلى تعزيز الروابط والعلاقات بين المجالس العسكرية الانتقالية الجديدة في الساحل، ما دعا بعض التحليلات الغربية إلى التكهن بإقامة اتحاد كونفدرالي محتمل بين بعض دول حزام الانقلابات برعاية روسية مع إمكانية التوسع مستقبلًا، خاصة أن المخاوف تتزايد حول احتمال تفكك إيكواس أو انهيارها حال استمرار الانقسامات بين دولها الأعضاء خلال الفترة المقبلة. 

إذ تتطور العلاقات البينية بين دول حزام الانقلابات خلال الفترة الأخيرة، ويعكسها تبادل الزيارات الرسمية بين بعض مسئولي المجلس العسكري النيجري ودول الجوار الإقليمي لا سيما مالي وبوركينا فاسو عقب انقلاب النيجر الأخير، وذلك في سبيل تعميق العلاقات والتنسيق المشترك ضد أي مخاطر إقليمية أو دولية محتملة. 

كما أن تحول العسكريين الجدد للتقارب مع موسكو على حساب فرنسا والغرب يمثل مؤشرًا مهمًا في هذا الصدد، في ضوء المساعي الروسية إلى تطويق النفوذ الغربي بما في ذلك الفرنسي من الساحل وغرب أفريقيا، وفرض قواعد لعبة جديدة في المنطقة، تستهدف من خلالها توسيع النفوذ الروسي على حساب الخصوم الاستراتيجيين هناك. 

تداعيات صعود العسكريين الجدد 

ربما تشهد المنطقة تحولًا لافتًا خلال الفترة المقبلة في ضوء التداعيات المحتملة لاستيلاء العسكريين الجدد على السلطة في بعض دولها. فمن المحتمل أن يطول أمد فترة الحكم العسكري الانتقالي في الساحل بحجة عدم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية التي تحول دون الالتزام بالجدول الزمني للمرحلة الانتقالية من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية، التي ربما تسمح بمشاركة العسكريين ضمن مرشحيها تمهيدًا للفوز بها وتمديد فترة بقائهم في الحكم، وهو السيناريو الذي ربما تشهده مالي خلال العام المقبل حال إجراء الانتخابات هناك، بعدما أتاح مشروع الدستور المالي الجديد ترشح أوسيمي غويتا، رئيس المجلس العسكري الحاكم، في الاستحقاقات الرئاسية، وربما يتكرر السيناريو في بعض الدول الأخرى بالمنطقة. 

ومع تفاقم حجم التحديات الاقتصادية والأمنية التي تشهدها دول الساحل خلال السنوات الأخيرة، وسط إخفاق للعسكريين في المسارعة بمعالجة الأزمات المتراكمة في بلدانهم، وعلى رأسها احتواء التهديدات الأمنية بما في ذلك تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية هناك، ربما يدفع ذلك نحو موجة جديدة من “انقلابات داخل الانقلابات” للإطاحة بالعسكريين الحاليين، كما شهدته بوركينا فاسو في يناير 2022، وسبتمبر 2022. 

وقد يترتب على ذلك انقسامات كبيرة في صفوف العسكريين بالجيوش الأفريقية، تزامنًا مع التحول المحتمل لدى الرأي العام الأفريقي في بعض دول الساحل من مرحلة التأييد للعسكريين الجدد إلى مرحلة السخط والاحتجاجات بسبب سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية، مما يشكل ضغوطًا كبيرة على السلطات العسكرية الانتقالية الجديدة في المرحلة المقبلة، مثلما هو الحال في غينيا كوناكري وما تشهده من احتجاجات بسبب الأزمات الاقتصادية خلال الفترة الأخيرة. 

فيما يبدو أن المشهد الإقليمي سيضحى أكثر تعقيدًا خلال المرحلة القادمة، فثمة مؤشرات حول احتمال احتدام الانقسامات الإقليمية داخل أروقة تكتل إيكواس المهدد بالتفكك والانهيار، في ظل حالة الاستقطاب الإقليمي الحاد بين دوله الأعضاء تجاه موجة الانقلابات العسكرية الأخيرة وتحديدًا في النيجر، التي ربما تصبح ساحة الصراع الإقليمي مستقبلًا في ضوء استمرار تهديد إيكواس مدعومًا من الغرب وفرنسا بالقيام بعملية عسكرية محتملة لاستعادة نظام الرئيس بازوم، في مقابل تحالف دول الممانعة الجديدة للنفوذ الغربي (مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري) ضد أي تهديد محتمل للأراضي النيجرية. 

وإن كان ذلك الانقسام يصب في مصلحة التنظيمات الإرهابية التي قد تجد فرصتها لتوسيع نفوذها ورقعة سيطرتها الجغرافية في دول المنطقة، بما يهدد الأمن الإقليمي، وانعكاسات ذلك على استقرار الأنظمة العسكرية الانتقالية الجديدة هناك. 

ولن تقف القوى الفاعلة صامتة أمام هذه التحولات في الساحل المرشحة لأن تكون ساحة تنافس محتدم وواسع بين اللاعبين الدوليين، ففرنسا لن تستسلم بسهولة لصالح خصومها الاستراتيجيين لا سيما روسيا التي ترغب في تطويق نفوذها بالمنطقة ويتزايد دورها باضطراد خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يهدد بمزيد من العسكرة في المنطقة التي ربما تؤدي إلى صدام محتمل من أجل النفوذ والاستيلاء على الثروات والموارد الأفريقية، وسط احتمالات تصعيد التوتر بين العسكريين الأفارقة والغرب الذي يخشى سقوط أنظمة حليفة أخرى مستقبلًا، بما يعني اختلال موازين القوة في المنطقة لصالح أطراف معادية مثل روسيا والصين، اللتين تسعيان إلى قلب معادلة التحالفات الدولية في أفريقيا خلال المرحلة المقبلة.   

مستقبل العسكريين الجدد في الساحل 

يبدو أن قائمة العسكريين الجدد في أفريقيا مرشحة للزيادة خلال الفترة المقبلة، حيث لا تزال الدوافع والأسباب لاندلاع الانقلابات العسكرية قائمة دون معالجة جذرية من قبل الأنظمة الحاكمة، بما قد يشجع بعض العسكريين لتكرار تجربة دول حزام الانقلابات بالساحل، وهو الأمر الذي أثار مخاوف بعض القادة الأفارقة مثل الرئيس الرواندي بول كاجامي (23 عامًا في السلطة)، والرئيس الكاميروني بول بيا (41 عامًا في السلطة)، مما دفعهم لاتخاذ إجراءات وقائية بتغيير قيادات الجيش في بلديهما تحسبًا لأي تحرك عسكري قد يطيح بهما من السلطة. 

وبخلاف ما يروجه الغرب حول احتمال فشل العسكريين في الحكم بالساحل، يُرجح أن يستمر القادة الجدد في السلطة خلال السنوات المقبلة، سواء من خلال تمديد المراحل الانتقالية لحين إجراء الانتخابات الرئاسية، أو تذليل العقبات أمام ترشحهم لتلك الانتخابات عبر مشاريع الدساتير الجديدة بهدف البقاء في السلطة. ومن المتوقع أن تستمر الضغوط الغربية على النخبة العسكرية الجديدة خلال الفترة المقبلة بهدف إجبارها على التراجع عن التقارب مع الروس، واستئناف التعاون والشراكة مع الغرب لا سيما فرنسا. 

وإجمالًا، يبدو أن الدور السياسي للجيوش الأفريقية يتنامى في منطقة الساحل التي أضحت خاضعة للحكم العسكري. لذلك، فهناك فرصة جيدة أمام النخبة الحاكمة الجديدة من العسكريين للشروع في تبني مقاربات من شأنها البدء في احتواء أزمات دول المنطقة ومنعها من الانتشار ومعالجة جميع التحديات والأزمات المركبة التي تواجهها على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، تمهيدًا للانتقال إلى مرحلة جديدة تستهدف التنمية المستدامة في القارة الأفريقية، مع الأخذ في الاعتبار أن الغرب لن يغير بوصلته واستراتيجيته الهادفة إلى الاستيلاء على ثروات وموارد الدول الأفريقية، وبالتالي يمثل اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في القارة بيئة مناسبة بالنسبة للقوى الغربية التي تستغلها لتوطيد نفوذها وحضورها في أفريقيا دونما النظر إلى مصالح الأفارقة. 

  

أحمد عسكر / أكاديمي مصري 

المصدر:  مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية