الراصد: قبل سنتين، أصدر الفيلسوف الأمريكي مايكل صاندل كتابه “استبدادية الاستحقاق” The tyranny of merit “
وهو كتاب هام يفسر فيه أزمات الديمقراطيات الليبرالية من منظور هيمنة فكرة الاستحقاق التي هي موضوع إجماع بين القوى السياسية اليوم.
وعلى عكس التفسير السائد للنزعات الشعبوية الجديدة وموجة تراجع الديمقراطية الليبرالية من منطلق ضروب التفاوت الاجتماعي المتولدة عن حركية العولمة الراهنة، يرى صاندل أن جذور هذه الأزمة السياسية المجتمعية العميقة تعود إلى سيادة فكرة الاستحقاق التي تبدو بديهية وعقلانية وعادلة، في حين أنها مصدر الغبن، والإحباط والتمايز الطبقي والاجتماعي.
ما تعنيه فكرة الاستحقاق هو أن جزاء كل فرد في نظام تنافسي تعددي يجب أن يتلاءم مع مجهوده وطبيعة أدائه ومردوده، بحيث تضمن المساواة في الفرص الأصلية من ثم يكون أي تفاوت في المنزلة والموارد شرعيًّا مقبولًا.
تلك هي الأطروحة الليبرالية التقليدية التي تجعل من الحرية المتساوية مقياسًا للعدالة الاجتماعية، ردًا على التحدي العصي المتعلق بمسألة التفاوت والتمايز الطبقي في المجتمعات الصناعية الرأسمالية.
والمعروف أن التيار السياسي الأيديولوجي الاشتراكي بمفهومه الواسع قد اتخذ من هذا الواقع ذريعة لنقد المنظومة الليبرالية باعتبارها عاجزة عن تحقيق مطلب العدالة والمساواة الذي هو خلفيتها الفلسفية الأصلية. ولقد اشتهر في هذا السياق نقد ماركس في كتابه “الرأسمال” حيث بلور نظرية الصراع الطبقي المتنامي المفضي إلى التدمير الذاتي للرأسمالية.
لقد أدرك الفلاسفة والمفكرون الليبراليون خطورة هذه الثغرة النظرية والقيمية، فاجتهدوا في وضع نظرية للعدالة التوزيعية تبرر وتشرع أشكال التفاوت المقبولة في المجتمع الليبرالي.
وكان صاندل نفسه قد وقف عند هذه المقاربات الجديدة في كتابه الشهير “العدالة” (Justice)
مبينًا أن النظرية الليبرالية وجدت نفسها مضطرة للتخلص من النزعة النفعية التي قامت عليها منذ نشأتها الأولى، متجهة إلى محاولة التوفيق بين مبدئي الحرية والعدالة.
فالنزعة النفعية المؤسسة على مطلب الرغبة القصوى تتعارض جذريًّا مع المقاييس الأخلاقية الدنيا التي هي مقومات أطروحة الكرامة الإنسانية ومنظومة حقوق الإنسان الأساسية، فضلًا عن ما تصطدم به من استحالة المقارنات الموضوعية المجردة بين المواقف النفعية ذاتها.
وإذا كانت المقاربة الحرياتية (الليبرتارية) – libertariens- قد اعتبرت أن الأساس المعياري للفكرة الليبرالية هو احترام العقود والتبادلات الطوعية الإرادية، فإن الاعتراض الذي يواجه هذا التصور يتعلق بفكرة امتلاك المرء لنفسه التي لا دليل عليها. والسؤال المطروح هنا هو: ماذا لو اصطدمت التطلعات والمطامح الفردية واستندت إلى توافقات استحقاقية تواضعية لا تتمتع بضمانات أخلاقية كونية؟
لقد أولى فيلسوف العدالة الليبرالية جون رولز هذا الإشكال أهمية قصوى، في محاولته بناء شرعية قيمية لنظام الحريات الفردية المتساوية، لكنه واجه حسب رأي صاندل تحديًّا نظريًّا معقدًا نتيجة لتأسيسه المشروعية الأخلاقية على عملية التوافق الجماعي التي لا يمكن أن تكون مصدرًا للالتزامات القيمية بالمنظور المعياري الجوهري.
إن هذا المأزق ناتج حسب صاندل عن الاتجاه إلى الفصل الحاسم بين المحددات الإجرائية الأداتية للعدالة التوزيعية، والغايات والمقاصد الغائية المنشودة منها.
لقد كرست الليبرالية الفردية الحديثة قطيعة متنامية مع التصورات الأخلاقية للعدالة التي كانت سائدة في الفلسفات السياسية القديمة والوسيطة. وكما يقول الفيلسوف الألماني الأمريكي ليو شتراوس، تخلت الفلسفات السياسية الحديثة في تصورها القانوني التاريخاني للعدالة عن فكرة “المدينة الفاضلة” المكرسة للفضيلة الاجتماعية في أبعادها المطلقة العليا. ذلك هو التصور الذي نجده في “جمهورية” أفلاطون، و”سياسة” أرسطو و”السياسة المدنية” الفارابية.
لم يعد السؤال المطروح في الحداثة السياسية: ما هو أفضل نظام سياسي يكفل العدالة في دلالاتها الوجودية والأخلاقية المثالية، وإنما غدا السؤال هو: كيف يمكن للإنسان أن يؤسس دولة تكفل له في آن واحد الحرية والسلم الجماعي؟
الإشكال هنا إذن ليس أخلاقيًّا أو قيميًّا، بل هو قانوني سياسي، والهاجس الذي ينطلق منه هو الخروج من شبح “الحرب الأهلية” التي تهدد دومًا استمرارية الدولة. ومن هنا يبدو السؤال الأهم هو: هل المطلب الاساسي في الدولة الحديثة هو مجرد حفظ السلم الأهلي من خلال سيادة وتحكم الدولة المركزية القوية أم أن الهدف هو تكريس الحرية المتساوية من خلال صورة “الإرادة المشتركة” التي بلورها جان جاك روسو وإن اعتبرها متعارضة مع النظام التمثيلي النيابي.
بالرجوع إلى استبدادية الاستحقاق لدى صاندل، يتكشف أن الديناميكية التنافسية الحرة لا يمكن أن تولد حلولًا عادلة لإشكالية التفاوت الاجتماعي، لأن الاستحقاق المذكور هنا هو في غالب الأحيان نتاج محددات ظرفية ضاغطة ومؤثرة وليس نتاج أهلية شخصية ناجعة.
يرى صاندل أن خلفية هذا المأزق تكمن في أطروحة نقل قواعد التنافسية الحرة من السوق إلى المجتمع، بينما الأمر يتعلق في الحقيقة بمجالين شديدي التمايز والاختلاف.
فإذا كان من الثابت أن قيم الحرية والتنافس ضرورية لتنشيط الحقل الاقتصادي، بما يفسر حيوية وتفوق الاقتصاديات الرأسمالية، فإن السياق الاجتماعي من حيث هو نسق رمزي تواصلي وقيمي له مقوماته الذاتية التي لا بد من مراعاتها واعتبارها.
وإذا كان رولز حصر شرعية التفاوت الاجتماعي في احترام قواعد الحرية المتساوية الأصلية واستفادة الجماعات المحرومة والمغبونة من الفائض الاجتماعي، إلا أنه عجز عن وضع هذه الشروط في صلب نظريته الفلسفية للعدالة، فانتهى إلى مراجعة سقف أطروحته الأخلاقية بتحويلها إلى نظرية سياسية في الإنصاف ضمن منظور ليبرالي.
وعلى غرار كل المفكرين الليبراليين، حافظ رولز على التمييز بين المعايير الأداتية الإجرائية في ضمان العدالة والقيم الجوهرية المتعلقة بالخير الجماعي، وأسس على الصنف الأول من المعايير نظريته للعدالة. إلا أن الإشكال المطروح هنا كما بين نقاد النظرية الليبرالية هو استحالة التفريق بين الوعي الذاتي للأفراد وسلوكهم المدني القانوني، وعدم إمكانية فصل الذاتية الفردية عن السياق القيمي الجماعي الذي تنتمي إليه.
فكيف يمكن الحفاظ على الإرث الليبرالي دون السقوط في وهم الفردية الإجرائية؟
أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني