الراصد : منذ سنوات طفولته الأولى أدرك "المختار" أنّ المجتمع ينظر بدونية لعائلته ويزدري شريحة "لمْعلْمين" التي ينتمي إليها، لكنّه لم يكن يدرك حينها تعقيدات الهرم الطبقي في موريتانيا.
لاحقاً خُيّل لـلمْعلَم (نسبة إلى شريحته) أن الفرص باتت متكافئة أمام المواطنين وأن بإمكانه أن يفرض تقديره على الآخرين، في قاعات الجامعة ومكاتب العمل أو حتى من على منابر المساجد.
حصول المختار على شهادة جامعية، وولوجه سوق العمل، وحتى مواظبته على إلقاء الدروس في الجامع، لم يغير شيئاً من واقعه المرّ، فما زال يلاحظ مشاعر الازدراء والاستصغار في عيون المجتمع "الأبيض" الذي يشكل الغالبية في موريتانيا، ويحدّد منظومة القيم ويهيمن على السياسة والاقتصاد.
"لمْشاقيل ولمْعلْمين والصُنّاع" ... تسميات عديدة لشريحة موريتانية امتهن رجالها، منذ القدم، مهنة الحدادة والنجارة، وارتبطت سيداتها بتزيين النساء بنقش الحنَاء.
ووفق كتَاب ونشطاء حقوقيين، ظلت الشريحة حاضرة بقوة في تاريخ المجتمع الموريتاني، وكانت وحدها تضطلع بصنع الآلات اللازمة للزراعة ومتطلبات الحياة الريفية والقروية، وفي العصور المدنية اللاحقة تابعت الشريحة نشاطها المهني، وظلت تزود السوق بصناعات محلية ما زالت تحظى بإقبال الناس عليها.
يشتكي لمْعلمين في موريتانيا من ظلم معنوي ومادي وتهميش مجتمعي، يتجلي في حرمانهم من الوظائف السياسية والدينية، ورفض المجتمع مصاهرتهم رغم أن أصولهم عربية، وفق ناشطيهم وفقهائهم، فيما يتواجد أبناء الشريحة في جميع ولايات الجمهورية، ولا توجد أرقام رسمية تحدد أعدادهم بالضبط. وخلافاً للزنوج والحراطين -طائفتان تعانيان التهميش المجتمعي- لم يدافع لمشاقيل عن حقوقهم منذ بداية قيام الدولة، لكنهم انتفضوا أخيراً ضدّ ما يسمّونه الاحتقار المتجذر في ذهنية المجتمع.
ظلم وأساطير
يرى كثير من مناضلي "لمْعلْمين" أن أكبر ظلم في حقّهم هو طمس جهودهم ومآثرهم في بناء واستقلال موريتانيا، حيث يقول الباحث محمد يحيى ولد عبد الرحمن، المنحدر من شريحة لمْعلمين "تعرضنا على مدار التاريخ الموريتاني للكثير من التهميش والظلم".
ويأسف ولد عبد الرحمن لذلك لأن "لمْشاقيل" أسهموا بشكل ملموس في قيام الدولة الموريتانية والجهاد ضد المستعمر من خلال صنع الأسلحة ومدّ المقاومين بها، ورغم ذلك لم يُذكروا في الكتب كشريحة قارعت الاحتلال الفرنسي.
"عانيت من التمييز المبني على حكايات ونصوص مزورة، فعندما كنت صغيراً في المحظرة (الكتّاب) ظلّ أقراني من "البيض" يردّدون على مسمعي "لا خير في الحدّاد ولو كان عالماً"، وهي مقولة يزعم العامة في موريتانيا أنها حديث شريف، وتكرّس في المحصلة احتقار الحدادين، ولكن الحقيقة أن هذه المقولة وغيرها ما هي إلا إفك افتراه من كرّس الطبقية". يضيف ولد عبد الرحمن، وهو يشير إلى أن بعض الفتاوى الفقهية تكرس دونية مجتمع الحدادين، حيث تُرَدُّ شهادتهم وتمنعهم من إمامة المصلين استناداً إلى معلومات مغلوطة تقول إنهم يشتهرون بالكذب، وينحدرون من أصل يهوديّ.
ولد عبد الرحمن قال في حديثه لــ"العربي الجديد": التهميش وصل إلى حد أن (لمْعلم) عندما يكون ضمن جماعة من "البيض" يحاول أن ينكر أصله حتى لا ينظر إليه بدونية، بفعل الأساطير والحكايات المشينة عن الطبقة".
وتابع "مؤرخون بارزون أكدوا أن (لمْعلْمين أو لمْشاقيل) في الأصل ليسوا عرقاً، وإنما التسمية ترجع إلى الشغل واحترافهم الحدادة والتصنيع".
الباحث ولد عبد الرحمن أوضح الأمر بقوله: "لمْعلمين تركت بصمة على الخيمة التقليدية في موريتانيا، إذ لا يمكن أن ترى فيها شيئاً إلا من صناعتهم، بدءاً بالأواني والأثاث وانتهاء بالمداد واللوح".
ردّ الاعتبار
في عام 2009 أطلقت مجموعة من نشطاء لمشاقيل مبادرة "الصُنَاع العرب" لتتطور لاحقاً إلى "حراك لمْعلْمين"، الذي أصبح واجهة وملاذاً لأبناء الشريحة.
"موريتانيا في وضع لا تحسد عليه، لأنها تسير في خط مغاير حيث تتنامي فيها القبلية والطبقية في الوقت الذي تشهد فيه الدول الأخرى النزوع إلى الأممية" يقول الشيخ ولد بيبه العمدة المساعد المكلف بالشؤون الحضرية في بلدية عرفات بنواكشوط ورئيس مبادرة حراك لمعلْمين.
خلال حديثه لــ"العربي الجديد" أبدى ولد بيبه أسفه لضعف التعليم الذي لم يستطع أن يرسخ مبدأ المواطنة، قائلًا "كان من اللازم بروز المطالب الشرائحية، لأن الدولة لم تقم بواجبها".
ونبّه إلى أن الرعيل الأول في موريتانيا، كان يراهن على قيام الدولة المركزية التي تنظر للمواطنين بالتساوي، وتذوب فيها الفوارق الاجتماعية ولكن ذلك لم يحدث، وهو "ما جعل نضال الشريحة يتأخر كثيراً"، على حدّ قول الشيخ ولد بيبه.
ولد بيبه أضاف، أن الإعلام ساهم كثيراً في تهميش شريحته، فعندما يكون الحديث عن العلماء والشخصيات الثقافية، لا يكون لهم ذكرٌ، بينما هم حاضرون في بقية العالم، حيث تم تكريم علمائهم في مؤسسات مرموقة، من بينها الأزهر الشريف في مصر في الوقت الذي تجاهلهم وطنهم.
وحول نسبة لمْعلْمين قال العمدة المساعد "لا تتوفر حالياً أرقام دقيقة ولكن إحصاء 1991 أكد أنهم يشكلون 7% ونحن في تزايد".
وأضاف ولد بيبه أنه بحكم تضامن أبناء الشريحة مع بعضهم ومطالبتهم بحقوقهم، أصبحت الدولة واقعياً تنظر إليهم كفئة ذات ثقل وحضور، وهو ما نتج عنه تعيين وزيرة للثقافة في الحكومة الحالية من أبناء الشريحة، وترقية أحد الضباط المنحدرين منها إلى رتبة جنرال.
لكن ما يسعى ولد بيبه إليه قبل كل شيء هو رفع الظلم المعنوي، والاعتراف بنضال لمشاقيل وإزالة الفوارق الاجتماعية.
"لمْعلْمين" والدين
في الفترة الأخيرة أصبحت قضية لمْعلمين محلّ اهتمام من لدن الكتاب والمثقفين من داخل الشريحة، في الوقت الذي حَمل بعضهم رجال الدين "البيض" المسؤولية عن غبنهم وتهميشهم.
بيد أن الطرح السابق دخل في منعطف خطير، عندما كتب الناشط لمْعلمي ولد امخيطير مقاله الشهير "الدين والتدين ولمعلْمين" الذي رأى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ساهم في تكريس الطبقية والتقليل من شأن الصُنّاع.
مقال ولد امخيطير أثار ضجة كبيرة على المستوى الوطني الموريتاني، حيث أفتى الفقهاء بردّته وتبرأت منه شريحته، قبل غيرها لأنها تؤمن أن الدين الإسلامي يحث على المساواة والإنصاف، وأن محمداً، عليه الصلاة والسلام، رسول الرحمة والعدل وما تقوَل به بعض الفقهاء قديماً لا علاقة له بالشريعة، كما أن كثيراً من أبناء الشريحة علماء وشعراء خلدوا أنفسهم في مراكز ثقافية دولية.
وزراة الشؤون الاجتماعية من جانبها رفضت التعليق على ما بات يسمى بحراك "لمْعلْمين" وقال الناطق باسمها لــ"العربي الجديد" إن الدولة لا تتعامل مع الشرائح، إنما مع المواطنين جميعهم على حدّ السَوَاء.
ويمكن القول إن الحكومة تجاوبت بشكل ملحوظ مع مطالب لمْشاقيل، إذ رخصت لهم وزارة الداخلية منظمة بعنوان "إنصاف" يرأسها أحمد ولد السالم أحد الفاعلين في القضية.
الجانب الاجتماعي للقضية لا يزال ملتهباً، إذ إن شريحة لمْعلْمين تعاني من عقبات عدم اعتبارها طائفة لائقة اجتماعياً، وهو ما ينعكس عليها في رفض مصاهرتها من قبل شريحة "البيض" وكثيراً ما فسخت حالات زواج لنساء من البيض برجال من طبقة لمعلمين بدواعي عدم تحقق الكفاءة الاجتماعية.
الأمر الذي رصده كتاب "لمْعلمين والإحساس ببطر الحق وغمط الناس" الصادر مؤخراً والذي أثار الكثير من الضجيج والردود على صفحات الجرائد ومواقع الانترنت، ونظمت له الندوات الفكرية.
لكن الباحث في مجال الدراسات الإسلامية الدكتور ديده الطالب أعلي، أكد لــ"العربي الجديد" أن مظاهر التنافر المجتمعي في قضية الزواج لا علاقة لها بالشريعة إطلاقاً إنما هي عادات فرضها الواقع البدوي المتخلف ومنظومة العادات القبلية.
من جانبه أكد أستاذ علم الاجتماع بجامعة نواكشوط إسلمو ولد خونه أن شريحة لمْعلمين جزء لا يتجزأ من المجتمع البظاني (الأبيض) قائلاً إن الدين واللغة والثقافة بجميع مكوناتها تثبت ذلك.
وأرجع ولد خونه سبب بروز مطالب الشريحة إلى الانفتاح الديموقراطي قائلاً "من الطبيعي أن تبرز مطالب هذا النوع من الشرائح في ظل وجود الديموقراطية".
وأكد ولد خونه أن من الطبيعي أن تثير وسائل الإعلام ضجيجاً حول "لمْعلمين" باعتبارهم فئة عانت التهميش طويلاً، مختتماً حديثه بالقول: "شريحة لمْعلمين من أهم ركائز المجتمع الموريتاني نظراً لإسهاماتها التاريخية".
24/06/2014