لا وجود بموريتانيا لسياسة مبنية او قائمة على غير منطق مصلحاتي. فالمصالح لدى الساسة الموريتانيين هي ماء السياسة ووقودها، ولكل فصيل سياسي تعبير عن مصلحة قائمة أو مطلوبة، وكلما اتّسعت رقعة المصالح والاهداف، كبرت اطماع الساسة، واتّسع نطاق السياسة، وكلما ضاقت مساحتها تقلّصت جغرافية السياسة وتواضعت مطالب الساسة، وهذا هو منهج المتمصلحين من السياسة، يؤسّسون به لسياستهم مشروعيتها، فتكتفي سياستهم بتلك المشروعية دون غيرها من حواضن التشريع المستمدّ من خارج النطاق المبني على سياسة المصلحة.
قد يعتقد البعض أن هذا هو التعريف السائد والشمولي للسياسة، أو أن السياسة، مجردة أصلا من أي مبدأ، أخلاقي أو ديني أو اجتماعي، وأنها تقوم على المصلحة وحسب، أيّا كانت النتائج والمآلات، وفي هذا الاعتقاد اختلال وتلبيس، فاقتران المصلحة بالسياسة اقتران يوطد العلاقة بين الممارسة السياسة في سبيل المصلحة العامة، ولا سبيل في تلك العلاقة إلى مصلحة ضيقة وخاصة لمن يتولى إدارة شؤون البلاد، أو لمن يواليه بنفس الاطار، وما من سبيل إلى تحقيق المصالح العامة إلا من خلال اكتساب السياسة "المعتمدة" شرعيتها العمومية "والاصلية" كمبدأ رئيس للمصلحة السياسية، ولا عبرة بمبدأ آخر يزاحم في تسويق سياسة المصالح الضيقة، وشرعنتها على الصعد الاجتماعية والاقتصادية... مهما تكن درجته من الطهرانية.
"من أكبر مراتب الاختلالات السياسية عندنا، اقتران السياسة بالمصالح الخاصة، وقيامها على منطق براغماتي ضيق، وتجريدها من المبادئ والاخلاق الوظيفية للسياسة، وجعلها لا تقيم اعتبارا لأي مصلحة عامة"
من المعلوم حقيقة أن القيم الاخلاقية والانسانية هي التي تعطي للمصلحة هويتها السليمة من الشوائب، وهي التي تكسب الممارسة السياسية شرعيتها وصفتها الطهرانية، ولا تعرف للمصلحة دلالتها الايجابية إلا بعرضها على معايير القيم الاخلاقية والانسانية، فبتلك المعايير تحصل السياسة على القيمية والاستمرار.
"لقد صرنا نعيش حالة من الانانية والسعي الحثيث في سبيل المصالح الضيقة، وقمنا باستغلال الدين والعواطف والمصالح الموازية عوامل تبرير وتسويق وتشريع لتحقيق الاهداف الخاصة"
إن السياسة -كآلية للتسيير والتدبير- ينبغي أن تبنى، بالكل لا بالجزء، على العدل والانصاف، لا على الظلم والجور، على الرحمة والاحسان لا على الجبروت والاقصاء، على الاصلاح لا على الافساد، وعلى الحكمة لا على العبثية والعشوائية. والمصلحة التي لا تتحقق إلا بإهدار القيم الانسانية والاخلاقية ليست مصلحة ولا عقلية ولا واقعية، بل هي مصلحة وهمية أو "مرجوحة بذهنيات سطحية"، أو أنها قرينة بمفسدة اكبر منها، ولا عبرة بما يخدم الخصوص دون العموم مهما علت مراتبه، وانتفخت أوداجه وجيوبه.